بقلم/ بروفيسور محمد غالاي انجاي بروكسل
ملاحظة: هذه الرسالة المفتوحة كتبتها في ٢٤ سبتمبر ٢٠١٩م، أعيد نشرها مجددا هنا لأن مضمونها مازال مطروحا وبإلحاح بعد ثلاث سنوات من افتتاح الجامع.
ليس من قبيل المماحكة أن بناية الجامع الكبير – الذي يحمل اسم مسالك الجنان – في قلب العاصمة السنغالية دكار تعتبر أكبر إنجاز معماري حضاري، بل وتاريخي حققه الإسلام السنغالي، أو بتعبير سوسيولوجي أدق، الإسلام الطرقي في السنغال، بعيدا عن عواصمه الدينية الرئيسية. ولا ريب أن هذا الإنجاز أتى في وقت متوتر جدا حيث لا يرى كثير من السنغاليين بصيصا من النور عند نهاية النفق، ذلك لأن الوسط السنغالي يموج بتيارات فكرية، ثقافية وشذوذية إباحية من نواح شتى: لقد لوحظ، بشكل جلي، الحضور الغربي – وبكل ما يحمل في طياته من ثقافة مادية إلحادية – كيف ترسخ بشكل أكثر من ذي قبل لا سيما في غضون هذا العقد الأخير الذي على وشك الانصرام. كما عايشنا في الآونة الأخيرة هجمات شرسة ومتجددة من طرف بعض أنصار التيار المتشدد من السلفيين-الوهابيين على البيوتات الدينية التي تدين بالتصوف منهجا وسلوكا، والتي استهدفت تقليص تأثير قوى الطرقية والحط من قيمة رموزها في أدمغة بعض المثقفين، وسيما في عيون العامة والغوغاء. ويأتي تتويجا لتلك الحلقات المتتالية مشروع تدوين تاريخ السنغال العام الذي كان مسخرة ومهزلة فكرية أكثر منه عملا علميا أكاديميا جادا يطمح إلى خدمة التراث وإنارة الدرب وتعبيده للأجيال القادمة.
لا يعزب عن ذي بال أن الجامع الكبير “مسالك الجنان” قد فٌرغ من بنايته وأضحى يشكل عملا فنيا رائعا لا نظير له، كما بات يمثل في وضعيتنا الراهنة جزءًا لا يتجزأ من المناظر الطبيعية في العاصمة دكار، ويبقى – من الآن فصاعدا – أن يُوجد له مضمون، فبعد نحت قالبه وهندامه الشيّق يبقى أن يُـزجّ بداخل أوصاله قلب نابض، بشكل أبلج أعني أن تُرسم له رسالة واضحة، ويوضع على عاتق ذوي كفاءات علمية راسخة. ذلك لأن دور المريدين العاديين، بل والمجتمع السنغالي بأسره من أسهم منهم ماديا ومن لم يسهم في إنجاز هذا الجامع، قد انتهى وأصبح أمرا مبرما مفروغا منه يوم سُلمت مفاتحه وطرحت في كف الخليفة الشيخ محمد المنتقى، وبقي الآن دور العلماء والمثقفين في منحه مضمونا دينيا، فكريا، ثقافيا، حضاريا، … الخ. وهذا الدور الذي يجب أن تلعبه النخبة المريدية يتأكد إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك التحديات الكبرى المتراكمة التي تحدق بالمجتمع السنغالي في إطار سياقه التاريخي الحرج الذي يعيش بين أحضانه، ومن أهمها إدارة الثروات (البترول، الغاز، … الخ.) التي تحتضنها تربة السنغال دون أي مشادات أو نعرات حزبية أو طائفية قد تؤدي إلى تفكك أو شرخ في النسيج الاجتماعي، بحيث يكون المستفيد الأول هو الشعب السنغالي.
إن المسجد الجامع “مسالك الجنان” كما أسلفنا لا يشك اثنان في أنه إنجاز ضخم يحسب للإسلام الطرقي، ولكن يجب أن يتيقن المريدون أن أكبر تحدٍ ينتظرهم يكمن في تسيير الجامع بحيث يؤدي رسالة تاريخية تُسهم بشكل ملحوظٍ وبناءٍ بحيث يكون منارة ومركز إشعاع علمي وفكري في الغرب الأفريقي. ولا يتناطح كبشان في مقدرة المريدية – كحركة صوفية تجديدية لها مؤسساتها وكوادرها؛ من كفاءات علمية عالية، وما مرّت بها من تجارب عويصة عبر تاريخها منذ نشوئها – في إعطاء المسجد الجامع وما يتضمنه من معهد إسلامي ومكتبة ضخمة، وأكسسوارات أخرى. مضمونا إسلاميا يكون على اتساق تام مع فكر المؤسس الشيخ أحمد بمبا ويساير في الوقت ذاته تحديات الألفية الثالثة.
وإذا محصّنا التاريخ نجد أن الحركة المريدية بوصفها كيانا خاصا، لها أتباعها المميَّزون في سلوكياتهم وتفانيهم في حب وخدمة شيخهم، قد اتسمت منذ نشأتها بطابعها التقليدي كما هو شأن غالبية الطرق والحركات الصوفية في الغرب الأفريقي إبان القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أن بعد وفاة الشيخ المؤسس أخذت الحركة مسارا جديدا أكثر انتظاما وانضباطا، حيث انتصبت أمامها مشاريع ضخام وملحة كان لا بد من إنجازها، وتحديات كبرى لا مفر من خوض غمارها، هذا بالإضافة إلى ازدياد أعضائها بشكل مدهش للغاية. وتندرج ضمن تلك المشاريع والتحديات توصيل خط سكك حديد من مدينة جُرْبَلْ (Diourbel) إلى طوبى لبناء مسجدها الكبير الذي كان من ضمن توصيات المؤسس الشيخ أحمد بمبا. وكان التحدي الأكبر يكمن في لمِّ شمل أفراد الطائفة بحيث تنقاد وراء زعيم واحد، وتكون لها كلمة مُوحَّدة. ورغم كل العثرات والعراقيل التي اعترت سبيلها، فقد استطاعت الحركة بقوة إيمان أتباعها وولائهم لها أن تصمد بحزم كالحجر الأصم. لقد كان الخليفة الأول الشيخ محمد المصطفى (١٨٨٦-١٩٤٥م) نجل الشيخ المؤسس، ذا حنكة وذكاء وشجاعة فريدة، فاحتضن الحركة وأظهر لباقة في تسيير الأمور، وسماحة نادر النظير في التعامل مع إخوانه وشيوخ المريدين الوجهاء. والجدير بالذكر هنا أن الذي لعب الدور الأكبر – من وجهة نظر تنظيمي – هو بدون شك ابنه سرين شيخ أحمد امباكي (١٩١٣-١٩٧٨م) الشهير بـ «غَايْنْدِي فَاطْمَهْ» (Gaindé Fatma)، ولا شك أيضا أن الخلفاء الذين أتوا بعد الشيخ محمد المصطفى إلى الخليفة الحالي الشيخ منتقى امباكي، كل اجتهد قدر طاقته ووفق سياقه التاريخي.، كما لا ننسى الدور البارز الذي لعبه الشيخ محمد المرتضى (ت ٢٠٠٤م) – هو أصغر أبناء الشيخ المؤسس – في أوساط المريدين المقيمين بأرض المهجر؛ من أبيدجان مرورا بفرنسا وإيطاليا حتى ألقى أخيرا عصا الترحال في نيويورك.
وسأقف برهة مع دور هذا الأخير الذي كانت المهمة الأساسية التي كرس حياته كلها من أجلها هي دونما ريب توسيع رقعة الإسلام ونشر رسالته في البلاد النائية؛ هذا الشيخ الذي أسلم على يديه خلق كثير، وانزجر برؤيته المتهاونون بدينهم، وشحذت به عزائم أهل الفتوة، وكأنَّما به نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ من سَلكوا مَسْلَكَ الاستقامة، كما ارتعدت به فرائص أهل الهِمَمِ المهاجرين إلى الله بلا متاع، كان قد استهدف حين أشار على المريدين المقيمين بأرض المهجر بإنشاء الدوائر واقتناء الدُّور وجود أرضية متينة تكون بالنسبة لهم منطلقا للدعوة الإسلامية بشكل عام، ومنصة لنشر تعاليم الشيخ الخديم بشكل خاص. ولا شك أن الشيخ مرتضى – بذلك – كان يؤمن إيمانا راسخا بأن الموروث الخديمي – لا سيما في مجالات التربية والتعليم وتعزيز السلم واللاعنف في العالم – قادر على إحياء قلوب ميتة، وترشيد عقول تائهة في عالم تسوده الفردية والمادية. ألم يقل والده:
«واجعــلـني الدَّهر بِـــشْـرَ الحُمرِ والسُّودِ ».
وقوله: «وانفع بِـيَ الورى يا مُـغـنيا عن مدفـــع ».
على الرغم من هذه الرسالة العظيمة التي وضع بذورها الأولى الشيخ محمد المرتضى، وقَبْله سَرِينْ شيخ غايندي فاطمة، إلا أنه نجد – مع الأسف الشديد – أن الدُّور الخديمية (Les Keur Sérigne Touba) الموجودة بأرض المهجر غالبيتها – تفاديا لقول كلها – إلى الآن لم تؤد في حقيقة الأمر الرسالة المرتقبة والمنوطة بها مثل مثيلاتها التي تشارك في صنع الرأي العام في البلاد الغربية التي احتضنها. ويزداد تأسفنا إذا علمنا أن المريدية – كحركة روحية وقوة اقتصادية – لم تنجح بعد في تنسيق جهودها بوضع آليات لتحريك وتفعيل ما بات يُعرف بـ “الدبلوماسية الدينية” لنشر الفكر المريدي في جميع أصقاع العالم، كما هو الحال مع بعض الدول مثل الهند التي تنهض بمهمة نشر ورعاية الفكر الغاندي، أو اليابان مع الفلسفة الدينية الكونفوشيوسية، …الخ. بل إن أمر الجالية يُدار بشكل شبه عشوائي وبمنأى عن أي توجيه أو أجندة مدروسة مسبقا ومقترحة من مؤسسة الخلافة نفسها. غير خاف اليوم أن بين الجالية المريدية والطريقة المريدية بشكل عام علاقة طردية، تقوى بقوتها وتتلاشى بانتكاسها، ذلك لأن الجالية المريدية هي بكل تأكيد مصدر القوة والانتعاش فكرا وروحا واقتصادا.
ويجب أن نسجّل هنا – اتساقا مع ما سلف ذكره – أن التحدي، بالنسبة للحركة المريدية، لا يتوقف – إذن – عند إنجاز مبنى مادي مهما كانت جودته ونصاعته، وإنما في وزن المضمون الذي مُنح له، أي في ضخامة وأهمية الرسالة التي يحمل على عاتقه في إصلاح الفرد والمجتمع، وليس أدلَّ على ذلك من تلك البنايات الجسام التي حكى عنها القرآن الكريم عن قوم ثمود، وقوم عاد بمدينة إرم ذات العماد التي خسفتها الأرض فلم تبق منها ولم تذر، وكذا أهرامات مصر التي بناها الفراعنة، ذلك لأنها كلها كانت خاوية من مضمون يُرضي رب العباد فأمست حديث الركبان، : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾. [سورة الفجر، الآيات: ٦-١٤]. كما نجد القرآن يعاتب أيضا قوما كانوا يعبثون ببناء ما بات يُعرف اليوم بناطحات السحاب ولم يكن لهم مضمون يقوّم سلوك بني البشر ويسلك بهم مسالك الجنان ذوات الأنهار: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾. [سورة الشعراء، الآية: ١٢٨].
لا جرم أن الشيخ المؤسس الشيخ أحمد بمبا كان على مستوى عالٍ جدا من العلم والوعي بحوادث الزمان وخطوبه والاكراهات التي قد تشكل حجر عثرة أمام مشاريعه الضخام التي كان قد شرع آنذاك في إقامتها، فقد كان يراعي في تسييرها ذوي الكفاءات العالية لكي تؤدي مضمونا ثريا معرفيا وحضاريا، فلنذكر على سبيل المثال حين شرع في تأسيس مشروع المسجد الجامع بمدينة جُـرْبَـل المشهورة أيضا بـ “البقعة المباركة” عام ١٣٣٥هـ/١٩١٧م، فقد أسند رئاسة اللجنة العلمية والفتاوى الدينية إلى العلامة الشيخ مُودُ جَـوْ بَخَ (١٨٦٠-١٩٤٦م) الملقب بـ “سلطان العارفين” لغزارة علمه، كما كلَّف أيضا الشيخ عيسى جِنْ برئاسة الشؤون الاجتماعية، وهلم جرا. فقد كان حريصا على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لعلمه بقول رسول الإسلام: «إذا وُسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ». فكان من ثمار هذا الجامع ما وصفه لنا الشيخ محمد الأمين جوب الدكاني (١٨٨٧-١٩٦٨م) أحد أبرز كُتّاب سيرته: «(…) فصارت القرية أعمرَ قرية بمساجدها ومدارسها القرآنية والعلمية ». ويضاف إلى ذلك أن الشيخ المؤسس كان ينوي تشييد مدرسة عريقة حدَّد هو بنفسه هدفها الأساسي إلا أنه وافته المنية ولم تر النور، وذلك كما حكى العلامة الشيخ امباكي بُوسُو (١٨٦٤-١٩٤٥م) في رسالته المشهورة إلى الحاكم الاستعماري الفرنسي جِيلْ بُرُوفِيه (Jules Brévié): «(…) لم يبق له حين وفاته [أي الشيخ أحمد بمبا] من حوائج الدنيا إلا ثلاثة (…) ألا وهو المسجد الجامع بوطنه طوبى المحروسة (…). الحج الذي يعدّه المسلمون من فروض أعيانهم (…). مدرسة تكون رحلة السنغال إليها في العلوم العربية شرعيتها وآلاتها. وقد أعـدَّ لها كُتبا لا تُـوجد عند غيره وفتيانا متأهلين لتدريس الفنون وآلات تقوم بها؛ … ».
ومن زاوية أخرى نأمل بكل قلوبنا أن تكون بؤرة الارتكاز في الرؤية التي يتأسس منها مشروع تسيير المبنى تكمن في انفتاح أكثر على الآخر بحيث يشكل المشروع همزة وصل بين كل الشرائح الاجتماعية والتيارات الفكرية والثقافية التي تشاركه في الهدف الذي ليس إلا دفع عجلة البلاد إلى الأمام وخدمة التراث ونفع الإنسانية ورقيها.
المريدية في واقعنا المعيش تعيش طورا جديدا وسياقا تاريخيا تنتصب أمامها تحديات جسام من طراز آخر تتربص بها، الشيء الذي يستوجب من مؤسسة الخلافة أن تعي جيدا أنها تعيش منعطفا تاريخيا مغايرا يحمل في طياته كل حيثياته الثقافية والحضارية والأيدلوجية، الأمر الذي يحتم عليها أن تسلك مسارا جديدا، بل مسارا تجديديا حداثيا في طريقة تسيير مؤسساتها الفرعية التابعة لها، وخاصة هذا المبنى الجديد الذي له ميزة خاصة بالنظر إلى مكان وجوده وموقعه الاستراتيجي، كل ذلك يوجب أن تُسيّر وفق نظرائه بشكل عقلاني وحضاري، أقصد بأن يوضع بين يدي أكفاء، وأن تكون له ميزانية سنوية تُسيِّر بها أموره ويكون العاملون به موظفين يتمتعون بكل حقوقهم، الأمر الذي يجعلهم في موقف موات ومريح لأداء رسالتهم كما يليق وينبغي.
محمد غالاي انجاي بروكسل
بروكسل بتاريخ: ٢٤ سبتمبر ٢٠١٩م