بين الانقلابات والعقوبات.. إلى أيـن تتجه مـالي؟

0
394

روضة علي عبد الغفار

صحفية مهتمة بالشأن الإفريقي

تكثُر المناورات وتَطول حِبال السياسة، وبين انقلاباتٍ متكررة وعقوباتٍ صادمة؛ تصاعدت الأحداث في مالي حتى وصلت إلى ذروتها، في مشهدٍ معقَّد تتلاقى فيه القوى الدولية ورواسب الاستعمار والمصالح السياسية والحسابات الإقليمية وإرادة الشعب..

فهل ترجح كفة الشعب المالي هذه المرة؟ وهل تتخاذل فرنسا وأخواتها عن الدولة الغرب إفريقية؟ وما حقيقة الموقف الروسي الداعم لـمالي؟ وما مستقبل المرحلة القادمة بعد فرض العقوبات على الدولة الحبيسة؟ هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق.

عقوبات صادمة!

قرّر قادة المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس”؛ خلال اجتماع استثنائي لهم عُقِدَ في 9 من يناير الحالي، في العاصمة الغانية أكرا، إغلاق حدود بلدانهم مع دولة مالي، وتجميد أرصدتها لدى المصارف، ومنع التحويلات البنكية، وسحب كافة الدبلوماسيين من باماكو، وإلغاء كافة أشكال التعاون معها، وكذلك المساعدات المالية باستثناء الأدوية والمواد الغذائية.

وجاء فرض العقوبات ردًّا على الاقتراح الجديد الذي قدّمه عسكر مالي، بشأن جدولة المرحلة الانتقالية، وانتهائها بانتخابات رئاسية في مدة من 6 أشهر إلى 5 سنوات، واعتبرت المجموعة الإفريقية أن الاقتراح يعني جَعل الشعب المالي رهينة لحكم العسكر لعدة سنوات إضافية.

ومنذ الانقلاب الأول في أغسطس 2020م ثمّ الثاني في مايو 2021م، تدفع إيكواس من أجل عودة المدنيين إلى الحكم في أقرب وقت. وكان المجلس العسكري في مالي قد تَعهد منذ الانقلاب الثاني في مايو 2021م، بإجراء انتخابات ونقل السلطة إلى حكومة مدنية في فبراير المقبل، لكن التسويف والمماطلة دفعا المجموعة الإفريقية الاقتصادية إلى التلويح برزمة قاسية من العقوبات منذ فترة.

وعن أسباب إرجاء الانتخابات وتمديد الفترة الانتقالية؛ قال الباحث المالي في العلاقات الدولية بجامعة باماكو، د. محمد إسماعيل لـ”قراءات إفريقية”: إن هناك عوامل موضوعية لا تسمح بإجراء الانتخابات في موعدها، بالإضافة إلى عدم وجود إرادة حقيقية لإجرائها مِن قِبَل السلطة الانتقالية قبل القيام بإعادة هيكلة وتأسيس الدولة، أي أن الانتخابات لم تكن يومًا أولى الأولويات.

وأحال “إسماعيل” أسباب الفشل في الالتزام بموعد الانتخابات إلى الأوضاع الأمنية والسياسية التي تتأزم يومًا بعد يوم؛ حيث عجزت السلطات الانتقالية عن لمّ شمل معظم الأحزاب السياسية والقوى الوطنية، ولم تُوفَّق في المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية في إرضاء قوى التغيير واشراكها في العملية السياسية، وهذا ما يفسّر رفض الكثير من الأحزاب السياسية وحركات الشمال المسلحة وقوى المجتمع المدني كحركة الإمام محمود ديكو، بالمشاركة في جلسات الحوار الوطني ونتائجها.

وأضاف “إسماعيل” أن تدهور العلاقة بين فرنسا والسلطة الانتقالية عقب تعيين “شوغيل كوكالا” رئيسًا للوزراء، والانسحاب التدريجي لقوات برخان الفرنسية كان من عراقيل الوضع الداخلي في البلاد؛ إذ تدهور الأمن وتقلصت المساعدات الخارجية.

وأكَّد أن المجلس العسكري منذ بيانه وخطواته في سبتمبر 2020م أعطى إشارات بأنه يسعى للبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، وقد حاول تهميش الأحزاب السياسية مُتهمًا إياها بالفشل، كما اتضحت هذه الإرادة للبقاء في السلطة أثناء كتابة مقترح المرحلة الانتقالية.

واعتبرَ الباحث المالي في حواره مع “قراءات إفريقية”؛ أن العقوبات المفروضة على مالي من قبل الإيكواس والاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا؛ بالأشد صرامة وقسوة في تاريخ المنظمتين تجاه مالي؛ حيث شملت العقوبات الجديدة جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية.

كما أنكر “إسماعيل” على قادة الإيكواس فرض هذه العقوبات على مالي، وأنهم لم ينظروا إلى الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها الدولة شبه المُنهارة منذ اندلاع أزمتها المتعددة الأطراف عام 2012م، وأضاف أن الرأي العام الوطني والإفريقي متعاطف مع السلطة الانتقالية في مالي على عكس ما تريده الإيكواس.

رفض شعبي:

وردًّا على هذه العقوبات؛ خرج آلاف المتظاهرين في العاصمة باماكو ومدن أخرى في مالي يوم الجمعة الماضي 14 يناير، احتجاجًا على عقوبات الإيكواس والضغط الدولي على بلادهم لنقل السلطة للمدنيين، وذلك استجابةً لدعوة المجلس العسكري الذي دعا لهذه المظاهرات دفاعًا عن الوطن.

وخرجت المسيرات الحاشدة إلى ساحة الاستقلال في العاصمة باماكو ومدن أخرى مختلفة، كما احتشد الماليون في باريس دعمًا للجيش ومشروع “إعادة التأسيس” الذي يشمل فترة انتقالية قد تمتد لخمسة أعوام.

يرى المدير التنفيذي لاتحاد علماء إفريقيا في مالي، د. عمر بامبا، أن الضغط الشعبي أحدث وسيُحدث تغييرًا في المشهد، وقد بدأت بوادر التراجع وتخفيف العقوبات بعد وقوف الشعب المالي معًا ضد هذه العقوبات اللاقانونية واللاإنسانية، وللتحرُّر من رواسب الاستعمار الفرنسي.

فبسبب هذه الانتفاضة الشعبية قام الكثير من السياسيين والبرلمانيين والنشطاء، وكذلك الجاليات المالية والإفريقية في كثير من أنحاء العالم بالتضامن مع الشعب المالي، آخرها دعوة عامة مفتوحة مِن قِبَل النشطاء في المجتمع المدني وبعض السياسيين للخروج يوم السبت 22 يناير للتضامن مع الشعب المالي. وفي النهاية فإن الشعب وقف وقفة رجل واحد ضد هذه العقوبات القاسية، ولا بد أن يثمر حراكه؛ بحسب “بامبا”.

وصرح “بامبا” في حواره مع “قراءات إفريقية” أن هذه العقوبات فُرضت للضغط على مالي لتظل تحت تصرفات فرنسا، وعليه فإن مالي بحاجة إلى مساندة جميع الأفارقة لكي تحرر من قبضة الاستعمار الفرنسي، وهذا سيفتح الباب أمام الدول الإفريقية الأخرى لتتمكن من فرض سيادتها في مواجهة فرنسا.

وقال “بامبا”: هناك عدة دول لا تملك سيادتها التامة، ولا تملك حتى عُملتها الخاصة، ورغم رفضنا لحكم العسكر إلا أننا نريد أن نستعيد سيادتنا من الاستعمار، لذلك علينا أن نقف جنبًا إلى جنب من أجل الحرية.

فرنسا تحتـضر:

تباينت ردود الفعل الدولية حول فرض العقوبات على مالي، وكانت فرنسا على رأس المؤيدين لهذه العقوبات، وروسيا على رأس الداعمين لمالي وحكومتها، فما القصة؟

أعلنت فرنسا في اجتماع الأمم المتحدة في 10 يناير الحالي، تأييدها للعقوبات التي فرضتها مجموعة الإيكواس على مالي، في حين طالبت روسيا إبداء تفهُّم لموقف السلطات المالية، وقال مساعد السفير الروسي لدى الأمم المتحدة: “فلنُظهر الاحترام الضروري لزملائنا الماليين، وندعم جهودهم الهادفة إلى إعادة النظام في بلادهم”.

وأضاف أن فرنسا كانت تهدف إلى إسقاط الحكومة الانتقالية من خلال خلق نوع من الامتعاض الداخلي من قِبل الشعب المالي، وبالتالي يقوم الشعب بمظاهرات يتم دَعمَها من قِبل القوى الإقليمية ومن فرنسا، وهكذا تأتي حكومة انتقالية أخرى موالية لفرنسا.

وعليه تم توجيه أصابع الاتهام لفرنسا أنها هي التي تقف وراء هذه العقوبات، لاستعادة مصالحها في غرب القارة، وفي هذا الصدد يقول الأكاديمي المتخصص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية الإفريقية، إدريس آيات، في حواره مع “قراءات إفريقية”: إن المجلس الانتقالي في جمهورية مالي تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها له فرنسا، باعتباره تعاقد مع القوات العسكرية الروسية؛ والتي تزعم فرنسا أنها قوات “فاغنر”، لكن الحكومة الانتقالية تقول: إنها تعاقدت مع قوات تابعة لوزارة الدفاع الروسية.

وأردف “آيات” قائلًا: إن الحكومة الانتقالية في مالي قدمت امتيازات للصين للتنقيب عن الليثيوم؛ الضروري لصناعة البطاريات، كما منحت روسيا رُخصًا للتنقيب عن الذهب في بعض المناطق، وعليه فإن فرنسا تخسر، ومن مصلحتها أن تأتي حكومة موالية لها.

في حين يرى د. محمد إسماعيل، أن الوجود الفرنسي في مالي يحتضر، وهذا سيكون له تداعيات على وجود فرنسا في غرب إفريقيا كافة؛ لأن مالي قلب غرب القارة والساحل الإفريقي، نتيجة الموقع الجغرافي والتاريخ المشترك منذ عصر الإمبراطوريات والمماليك الإفريقية، والارتباط الإثني واللغوي مع بقية دول المنطقة.

لذا يعتقد “إسماعيل” أن خسارة مالي تمثل ضربة قاسية لفرنسا في إفريقيا الفرنكوفونية قاطبة، وأن الشعب المالي لديه نزعة قومية مرتفعة واستعداد لمواجهة أيّ قوى خارجية تهدّد الأمن والاستقرار في المنطقة، كما وقف مع الثورة الجزائرية ضد فرنسا، ورغم ذلك فإن هناك مصالح مشتركة بين البلدين، ولن تقبل باريس الخروج بسهولة.

روسيا تنتـشر!

وعن الدعم الروسي للحكومة في مالي؛ يرى إدريس آيات أن هذا امتداد للنهج الروسي بعد سقوط النظام الجماهيرية في ليبيا في 2001م؛ وهو أن روسيا لن تدع الدول الغربية، وخاصة فرنسا التي قادت العملية العسكرية ضد “معمر القذافي”، لن تتركها تطوّر أجندتها في مكان آخر.

وفي هذا الإطار تدخلت روسيا في موزمبيق وليبيا، وتحاول أن تعرقل مخطط فرنسا في مناطق نفوذها التقليدية، وهذا يفسّر التدخل الروسي في منطقة الساحل؛ قلب النفوذ الفرنسي، وبالتالي تتعاون مع الحكومات الإفريقية المتمردة على الهيمنة الفرنسية، لعرقلة المشروع الليبرالي؛ بحسب “آيات”.

وأضاف الأكاديمي المتخصص في الشؤون الأمنية؛ أن الاستراتيجية الروسية ترى في الدول الإفريقية المتمردة على الهيمنة الأمريكية والفرنسية حليفًا محتملًا لخلق نظام عالمي جديد، تكون فيها روسيا قوة عظمى، وليست مجرد قوة إقليمية في منطقه شرق أوروبا.

وفضلًا عن المصالح السياسية هناك مصالح اقتصادية، فـروسيا دولة متقدمة في صناعة التكنولوجيا، والصناعات العسكرية والنووية، ومالي تملك الليثيوم الضروري لصناعة البطاريات؛ التي تستخدمها الشركات الروسية التي بدأت تتطور في مجال الإلكترونيات، كما تهتم روسيا منذ فترة بجمع أطنان من الذهب، ومالي تملك أكبر مناجم الذهب في منطقة الساحل.

بين الانقلابات والعقوبات.. إلى أين؟

تتكرر التساؤلات عن شكل المستقبل في مالي في ظل هذه العقوبات القاسية، وعن إمكانية التراجع أو التفاوض حولها، وفي هذا الصدد يعتقد الأكاديمي إدريس آيات؛ أن هذه العقوبات لن تطول ولن يتم تطبيقها لكثير من الاعتبارات؛ منها أنها غير قانونية، ولأن مالي دولة حبيسة وليس لها مداخل بحرية، لذلك سيتم تخفيض العقوبات وخاصة المتضمنة الحصار الكلي وتجميد الأصول البنكية، وتبقى فقط العقوبات الخاصة بأفراد سلطة الحكومة الانتقالية، هذا في حال لم يوجد جدول مناسب ومعقول للانتخابات القادمة.

وأضاف “آيات” أنه يجب التركيز على السياسة التي تستخدمها الحكومة الانتقالية؛ لأنه رغم موافقة الشعب على الكثير من مشاريعها، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، واستعادة 7% من أراضي البلاد، إلا أن خطاب الحكومة خطاب شعبوي، وإذا ما كان هذا الخطاب الشعبوي متوافقًا مع رغبات الشعب، فالمرحلة القادمة سيكون بها نوع من الاستقرار النسبي، ومزيد من الإنجازات، مع بعض الضغوطات الإقليمية والدولية.

وذَكَر “آيات” في حديثه لـ “قراءات إفريقية” أن هناك تحديات عديدة تواجه مالي في ظل هذه المستجدات، ومن أبرز التحديات السياسية هو التوافق الوطني؛ لأن هناك جزءًا ليس باليسير من المجتمع معترض على الاتجاه العام للحكومة الانتقالية، ولا يوجد توافق بين كبرى الأحزاب في الدولة مع الحكومة الانتقالية. وأضاف “آيات” أن عدم التوافق بين الحكومة نفسها والحكومات الإقليمية في الدول المجاورة هو تحدٍّ آخر، وهذا ضروري جدًّا لأن تلك الدول، خاصة دول منطقة الساحل الخماسية، أغلبها لها دور كبير في مكافحة الإرهاب.

أما التحدي الثالث فهو الانتخابات نفسها، وجدولتها في فترة زمنية معقولة تتوافق مع رغبات الشعب المالي، وكبرى الأحزاب والمجتمع المدني، إضافةً إلى شركاء مالي.

وعن التحديات الاقتصادية يعتقد “آيات” أنها تتمثل في موقف المانحين والشركاء فيما يتعلق بوقف المساعدات للحكومة الانتقالية، وهذه المساعدات تتراوح ما بين 19% إلى 23% من الميزانية الحكومية السنوية، وهي نسبة ليست هيّنة؛ لأنها تساعد في مكافحة الإرهاب وبناء المستشفيات، وتساعد حتى في دفع الرواتب لبعض الموظفين، ويجب أن تقوم الحكومة بسد هذا العجز.

وأضاف “آيات” أنه يجب على الحكومة في مالي القيام بدراسة جدوى عامة للوضع، ومحاولة الاقتراض من شركاء آخرين؛ لأنه في ظل العقوبات المفروضة، حتى وإن لم تستمر، فهناك بعض الدول أغلقت حدودها، إضافة إلى أن الصادرات هذه السنة لم تكن على المستوى المطلوب، وإضافة إلى جائحة كورونا، فهذا كله يمثل تحديًا آخر على ميزانية الحكومة لتكون قادرة على الاستجابة للتحديات الاقتصادية التي تمر بها الدولة، وإلا سيكون الضغط الاقتصادي في الداخل أكبر من الضغط الخارجي والإقليمي.

وختامًا:

فإن المشهد المالي يزداد تعقيدًا، إلا أن هناك آمالاً عريضة وإرادةً لاستعادة الوطن المسلوب، ورغم ضبابية المشهد المالي وكثرة المدخلات إلا أن صوت الشعب يبقى الأكثر وضوحًا ولا صوت يعلو عليه.. فهل تهدأ الأوضاع بعد اشتعالها؟ أم نشهد

تغييرًا كليًّا في الدولة الغرب إفريقية؟

“المصدر موقع قراءات إفريقية”