لقد كان للتعليم الديني الإسلامي جذورا متجذرة في الثقافة الدينية السنغالية، منذ أن اختار أهلها الإسلام دينا، فكان الشيوخ المربون يؤسسون معاهد تربوية وتعليمية تُخرّج أفواجا وأفواجا متشبّعين بالمعرفة الدينية المتكاملة الأركان، مع حفظ القرآن الكريم الذي سار سمة من سمات الشّعب السنغالي، حيث يحفظ المئات سنويا القرآن في مختلف المدن والقرى.
فكانت مدينة اندر من أكبر قِلاع العلم والمعرفة، منذ عهد الاستعمار إلى الآن، حيث أخرجت لنا قامات علمية، وما زال يحتفظ على مكانته العلمية تلك، والكتاتيب القرآنية فيها كادت أن تكون على عدد البيوت كثرةً وعددا، ومن بين هذه الكتاتيب أو المعاهد، معهدٌ فريد من نوعه، منهجًا وأسلوبًا وأهدافا، مدرسة ٌ احتفظت على أصالته، ولم ينغلق على مستجدات العصر، معهدٌ تأسَّس – مُذْ أُسِّس- على أساس الاحتساب، والتفاني في تربية النشأة، وتعليمها وتأطيرها، وهذا ما جعله يحظى باحترام كبير لدي السكان النَّدريّة، وتقدير كبير لهم، ألا وهو
“معهد تيسير العسير لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية“
الشيخ المؤسس
لاشك في أنَّ أي عمل ناجح لابد أن وراءها رجل ناجح، رجل قوي الإرادة، وعالي الهمة، وإن الله يصطفى من عباده عبادا يكونون له، يحملون عبء الدعوة لدينه، فكان لذلك أن اصطفى الشيخ مور جوب رحمه الله ليكون من أولئك الفئة الظاهرين للحق لا يضرّهم من خذلهم، أولئك الأشمعة التي تحترق لتنير درب المسلمين، أولئك رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه. ولقد أبدع ابنُه العلامة محمد المصطفى جوب اندر وصفه إذ قال:
“راعي ميراث السّلف، رمز الصّمود أمام التحديات،مربي الجيل: سرين مور جوب”.
وللتّعرّف على شيخنا المربي نُصغي السّمع لولَده سيدي عبد الله جوب حفظه الله ليُحدِّثنا عنه نسبًا ومولدًا في دراسته حول الشيخ بعنوان: “الشيخ مور جوب مؤسس معاهد”:
نسبه
هو العالم الفقيه الرباني الزاهد الذي كرس حياته في خدمة القرءان وأهله، ومؤسس معاهد تيسير العسير لتحفيظ القرءان الكريم وتدريس العلوم الشرعية، الشيخ مور جوب بن محمد فاط غي جوب، بن مباي بنت فال بن مور مانت بن ءال سخن سو،
مؤسس قرية بِلَلْ جوب بإذن ابن أخيه […]؟مختار اندومب جوب Ndoumbé مؤسس قرية كوكي ومدرستها الإسلامية.
أما أمه فهي السيدة الفاضلة رقية جوب.(بنت الشيخ موسى رقية جوب، أحد أبطال الجهاد الفلاني شيخو أحمد المتوفى سنة1875م.
والأبوان من أسرة دينية، ملتزمة متورعة، معروفة بالجد والصلاح والإصلاح.
ولادته:
لقد ولد الشيخ مور جوب حوالي عام (1926م ) في قرية (كر مانت جوب( Keur Manta Diop على بُعد 22 كلم عن مدينة لوغا.
تحديد المعهد وتصويره جغرافيا.
يقع المعهدُ في مدينة سانت لويس “اندر” في حي “صور داغا” على مقرُبةٍ من المحطة الرئيسية للمدينة.
عندما تقترب من المدينة وأنت في السيارة، سترى مسجدا جامعا في استقبالك بصوامعه الأربعة، فاتجه صوبَه –بعد نزولك من السيارة- وأنِخْ فيه رٍسْلك واحْمدْ غِبَّ السُّرى، واعلم أن ما وراء تلك الصوامع الأربعة لَعَمَلٌ جليلٌ، إنه مسجد تيسير العسير، الذي بنّاه الشيخ على تقوى من الله ورضوان، وإن زدتَ خطوات فأنت أمام المدخل الرئيسي للمعهد، وعلى الافتة كُتب “معهد تيسير العسير وتدريس العلوم الشرعية” تعريفا لاسم المعهد، وقوله تعالى: “فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”. تعبيرا لشعار المعهد وهدفه.
تاريخ التأسيس ومراحله:
بما أنّ سنة الله اقتضت أن الغيث يبدأ قطرة ثم ينهمر، وأن الطفل يُولد ضعيفا ثم يقوي شيئا فشيئا، فكذلك كلُّ مؤسسة لابد أن تمرّ على مراحل وتعتريها تَقلُّباتٌ وتنقلاتٌ قبل أن تستقر في مستقرٍّ لها،وهذا ما وقع لمؤسستنا المجيدة.
وعن تأسيسه،وسببه، ومراحله يحدثنا ابن الشيخ، في مقالته السابقة الذكر”.
“لقد أسس الشيخ مدرسته القرآنية هذه بإذن من خاله ومرشده الروحي، الشيخ جبريل جوب رحمه الله تعالى عام(ت 1954م)،وابتدأ التعليم في حي (بَلكوْسBalacose) بمدينة اندر، قبل أن ينتقل عام 1957م إلى سكنى حي جامكن Diamageune )، ثم إلى (سور داغا Sor Daga) عام (1977)م؟ في نفس المدينة، فكانت هذه التَّنَقُّلات بمثابة ثلاثة مراحل مرَّت بها مدرسة الشيخ مورجوب.”
إذن تأسس المعهد سنة 1954 ومر على مراحل ثلاثة، واستقر في صور داغا منذ سنة 1977،وهذا ما يعني أن المعهد عاش ما يزيد عن ستين سنة، ولا أدل على قدم المعهد أن والدي تخرج منه ولم يكن من الأوائل، بل سبقه هناك آخرون.
أقسام المعهد من حيث النظام التعليمي.
لقد انقسم المعهد من حيث النظامُ التعليميُّ إلى قسمين رئيسيين:
القسم التحفيظي، وهذا القسم هو خاص لتحفيظ القرآن الكريم، وهو أصل المعهد ولأجله أُسِّس، يدرس فيه الطلبة باختلاف أعمارهم صغارا وكبارا، وتكون الدراسة على شكل حلقات، وكل حلقة لها رئيسها ومسئولها، وتكون الحلقات موزعة على الأقسام الدراسية الموجودة،وأسماء الأقسام هي:
بذر الأنوار، ودار القدوس، ودار التنزيل، ودار العليم، ودار السلام، وجنة المأوى، ولكل قسمٍ من هذه الأقسام منسقٌ عامٌّ،
و هذا القسم التحفيظيي يُشْرف عليه ويؤطره أحد أبناء الشيخ وهو/سرين جبريل جوب.
أما القسم الآخر فهو التعليم المجلسي الذي يهتم بتدريس العلوم الشرعية بمختلف التخصصات، كالفقه والنحو والأدب والأصول واللغة العربية وغيرها، وهذا القسم قد تأسَّس نتيجة تطوُّر طبيعي لأي مؤسسة تربوية وتعليمية، وكان الشيخ يتولى مهمة التدريس فيه، لكن بعد ما أدركه الكِبَرُ لم يعد قادرا لذلك فكان الطلبة يلجئون لأخذ دروس علمية خارج المعهد، لكن عودة ابنه الأول العلامة الشيخ أحمد الخير جوب حفظه الله ، كانت إيذانا لتأسيس فعليٍّ لهذا الجناح ، حيثُ أن الأخيرَ حمل على عاتقه مهامَّ والده ليكون خير َخلف لخير سلف،وما زال -إلى الآن- يُسَيّرُ الشأن التعليمي المجلسي في المعهد.
وبما أن الشيخ يُؤمن بفكرة التّطوّر وتَقَبُّل كلّ جديدٍ نافع، ويحب أن يقدم لطلبته أكبر قدر ممكن من الفُرص التعليمية، ويُنوِّع العروض والخيارات المقدمَة لهم، قد أسَّس مؤخرا قسما تعليميا آخر وهو“القسم التعليمي العربي الفرنسي“، وهو محاكاة ومضاهاة للتعليم النظامي الوطني، ويسيِّر هذا القسم ابنُ الشيخ،الدكتور مالك جوب حفظه الله.
فالشيخ المؤسس –رحمه الله – كان يتفانى في توفير السَّكن المناسب وتقديم الخدمات الطّبِية اللاَّزمة لطلبته، وكل ذلك مجَّانا، ومن العجيب أنه آثر طلبته على نفسه، حيث بنى لهم -وما زال يبني -سكنا حديثة البناء، يتوافر فيها كل وسائل الراحة، في حين أنه ترك بيته الخاص على عهد ما كان عليه فبل أن أّولَد أنا، وما زال كذلك يسكنه هو وأهله-وليستُ بمبالغ- مع التنويه أنه-حفظه الله- لا يعتمد على أي جهة لتنفيذ مشاريعه التربوية !!!.
ومن كلماته الخالدة: “طلبتي أبنائي”.
المنهج التعليمي الناجح وأسراره
لقد نجح المعهد في تبني منهج تعليمي فعَّال، محافظ على خصوصية المعاهد التقليدية، من حيث متانة التكوين العلمي الشمولي في هذه العلوم: الفقه واللغة والنحو والبلاغة وغيرها، دون الانغلاق على ما لدى المدارس العصرية من تجارب حسنة،في تنويع المواد المدروسة، والتدرّب على المهارات اللغوية والخطابية، فجمع بذلك الحسنين وصنع نموذجا ينبغي الاحتذاء به والنسج على منواله.
الاستفادة من تجربة المدارس النظامية.
أما بخصوص انفتاحه على ما لدى المدارس العصرية، فيتمثل في تكوين طلبته على إجادة اللغة العربية كتابة وتحدّثا -على عكس ما عُهد من الطلبة “المَجْلِسيِّينَ”، من ضُعف المستوى اللغوي والصناعة الأدبية،-فاهتمّ بهذا الجانب كثيرا، وهذا الأمر ما جعل طلبته الذين تخرجوا والتحقوا بالجامعات مباشرة، لا يجدون أية صعوبة لا من حيث اللغة، ولا من حيث المواد المدروسة، بل يجدون أنها على تناغم تام مع ما كانوا يتلقوه في المعهد…
نظام التدرج والدقة في اختيار الكتب المدروسة.
يقدم المعهد لطلبته تكوينا علميا رصينا، قائما على الدقة في اختيار الكتب المناسبة، مع مراعاة الفوارق الفردية ذكاء وبلادة، فهما وضبطا، وإعطاءِ كلٍّ حقّه في التعلم والتفقه، فيبدأ مع الطالب بتدرّج فيبدأ في الفقه مثلا ب”مختصر الأخضري”،ثم “العشماوية”،ثم “المقدمة العزية” ثم “منظومة ابن عاشر” ثم “الرسالة القيروانية”،ثم “اسهل المسالك”،ثم” إرشاد السالك” ثم “مختصر خليل”،ثم ” الأحكام لابن عاصم”،وهذا التدرج في الفقه كذلك يكون في النحو والكتب اللغوية والأصول والبلاغة, حيث يتخرج الطالب -إذا استوفى البرنامج- وهو متشبّع بزاد علمي كاف في العلوم الثلاثة الفقه واللغة والنحو، مع مشاركة لا بأس بها في التخصصات الأخرى ذات الصلة بالعلوم الشرعية واللغوية.
والطلبة بعد هذا التكوين الرزين الرصين على فئتن: فئةٌ تختار الرجوع إلى أهله راضيا بالغنيمة بالإياب لينذر قومه،وفئةٌ-بعد أن فتح المعهدُ شهيَّتَه العلمية- تفضّلُ متابعة مسيرته العلمي في الثانويات والجامعات داخل البلاد وخارجها.
الرؤية المستقبلية للمعهد وفتح الآفاق لطلبته.
لقد وضع المعهد خطة استشرافية لضمان مستقبل طلبته ومنحهم فرصة متابعة مسارهم التعليمي بالمدارس النظامية لنيل الشهادات في عصر الشواهد، فكانت إدارة المعهد تختار في كل سنة عددا من طلبته الذين لمست فيهم الكفاءة والبراعة، ويعطيهم شواهد ليلتحقوا بثانوية مدرسة الحنفية بلوغا، فلم يخيّب هؤلاء ظن الإدارة فيهم، فكان لهم من التفوق ما كان، لكن الإدارة وكأنها استبطأت الأمر، إذ أنها تؤمن أن من تَخَرَّجَ من المعهد -مع كثافة التكوين وجودة التعليم-لم يعد بحاجة إلى الثانوية، فوضعت خطة أخرى مفادها: التخريج المباشر لطلبته من المعهد إلى التعليم الجامعي، فكتبوا طلبا-بواسطة الدكتور مالك جوب- إلى الإدارة المغربية المتمثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية فوافقت الأخيرة على الطلب واستحسنته، فأصبح الطلبة يلتحقون إلى التعليم الجامعي العتيق في المغرب، ومنذ ذلك التاريخ تخرجت أفواج حاملين شهادات الإجازة وبعضهم يواصلون تكوينهم العالي في الماسترات والدكتوراه.
هذا إلى جانب الذين تخرجوا من المعهد ونهلوا من منهله ما يؤهلهم لتأسيس مدرسة فرعية له، دون إغفال تلك المعاهد التي أسسها الشيخ بشكل مباشر في بعض المدن كطوبى وتياس حيث يُشرف عليها أبناؤه.
فما هي فروع المعهد وأين توجد وتواريخ تأسيس كل منها؟؟
فروع المعهد:
لقد زرع الشيخ مجموعة خلايا ليست نائمة، فرّقها في أنحاء السنغال، دكار، وتياس، ولوغا،وطوبى، وفجَّر فيها ينابيع تنويرية أحيت الأرض بعد ما كادت تموت، وأصبح نسيم القرآن والعلم فيها في هبوب، ورايتهما في خفوق.
ولقد قام الباحث سيدي عبد الله جوب بتتبع ورصد هذه الفروع في دراسته السابقة الذكر ،وفيها يقول:
” بعض المعاهد القرآنية التي تخرَّج مدراؤها من هذا المعهد:
لوغا: معهد الشيخ عيسى صامب Issa Samb الإسلامي بلوغا سنغال في حي(َسنْجَبَ Santhiba. تأسس حوالي عام 1972م بإذن من الشيخ مور جوب.
_ دكار: معهد تيسير العسير مركز/ مفتاح النصر الموجود في حي (جَخَايْ بعد أن كان في حي بِن ْبَرَاكْ) وقد أُّسِّس في عام 1986م.
_ طوبى: معهد تيسير العسير لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية والعربية/مركز (طوبى جيمل)، الذي أُسِّس في أكتوبر عام 1999م.
_ طوبى: معهد تيسير العسير لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية والعربية/مركزي (طوبى عالية)، الذي أُسِّس في أكتوبر عام 2012م.
_ طوبى: معهد الشيخ محمد الأمين غي لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية، بحي جنة الفردوس طوبى.
_ طوبى: معهد تيسير العسير مركز/ الشيخ بار فاط مبوج: طوبى جنة النعيم وقد أُسِّس في عام 2004م.
_ طوبى: معهد تيسير العسير مركز/ طوبى بغداد: أُسِّس في عام 2010م .
_ طوبى: معهد تيسير العسير مركز/الشيخ مالك انياس طوبى بغداد (2) .
_ طوبى: معهد تيسير العسير مركز/سرين مور خر توري دار المنن: أُسِّس في 11/02/.
_ طوبى: معهد مقدمات الأمداح لتحفيظ القرآن الكريم طوبى/أُسِّس في 11/فبراير عام 2012م.
_ تياس: معهد تيسير العسير ،أُسِّس في يوم الاربعاء 15 فبراير 2012م.
_ لوغا: مدرسة الشيخ مباك غي لتحفيظ القرآن الكريم: أُسِّست في عام1998م.
_ سو كون: معهد تيسير العسير مركز/ (ندو فان) (سو كون): أُسِّس في عام 2013م _
غامبيا: معهد تيسير العسير لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الشرعية مركز(يونا)youna) غامبيا، على بعد 15 كم من العاصمة بانجول، أُسِّس في عام 2012م .”
فهذه هي بعض الفروع، ولقد نشأت فيما بعد، فروعٌ أخرى لأن الشيخ طموح جدا، وهدفُه كما يقول دائما-أن يكون له في كل مدينة معهدا!!! حفظه الله ورعاه.
وأخير:ا
هذا هو معهد تيسير العسير،الذي وافق رسمُه معناه، فكان صرحا علمية شامخا، ومنارة تعليمية فريدة، يقوده عقلّ ناضج و مفكر، يحسن التدبير والتسيير، قد اختار أن يعمل بعيدا عن الأضواء، والجعجعات الإعلامية، إخلاصا لربه سبحانه وتعالى.
إنه معهدٌ اسمّه دالٌّ على هدفه، وهو : تيسيرُ حفظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية.
وشعارُه –وإن لم يُصرِّح به: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}.
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون}.
رحم الله الشيخ مور جوب وأسكنه فسيح جناته وجميع القائمين على ذالك القلعة العلمية المباركة، وفروعها الكثيرة!!