يعد الشيخ الحاج عبدالله نياس ابن السيد محمد من أبرز دعاة الإسلام في منطقة غرب إفريقيا في القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجريين.
ينتمي هذا الشيخ إلى سلالة عربية قحة نزح أحد أبنائها وهو الرضى من ليبيا إلى جولوف؛ حيث تزوج بكريمة تسمى بجيل نياس ذات لقب العائلة (انياس)
وكثيرا ما كان ولده الخليفة الحاج محمد نياس يغتبط بهذا الانتساب في معرض افتخاره بحسن أدبه ويردد هذين البيتين لشاعر حساني من بلاد شنقيط:
إنا بني حسن دلت فصاحتنا # أنا إلى العرب العرباء ننتسب
إن لم تقم بينات أننا عرب # ففي اللسان بيان أننا عرب
في حين يقر لهم بصحة هذه الدعوى أحد الشعراء الشناقطة ببيت راج عند العبدلاويين:
أبناء أنياس قد دلت شمائلهم # بأن عنصرهم ينمى إلى العرب
وفكرة انتساب شيوخنا الزنج إلى الأصول العربية، لا يستسيغها كثير من خريجي الجامعات الحديثة، ويرونها مجرد دعاوي لا بينة لها، وأن فيها شعورا بالدونية والخجل إزاء الجلد الأبيض، إضافة إلى أن الفضل عند الله للأتقى، ويحضرني في المقام بيت من قصيدة للشيخ إبراهيم خوروجاكا في الدفاع عن بني الزنوج حيث يقول:
إن عيرونا باسوداد جلودنا # فالفضل لا يحوى بجلد أحمر
إن تشكيك من ينتسبون إلى الصحوة العلمية، والحداثة الفكرية في هذه المسألة لا يجعلها خاطئة؛ فاحتكاك الأجناس البشرية لا سيما المسلمة منها بعامل الإسلام والفتوحات التي توالت على مدى قرون في مشارق المعمورة ومغاربها، ليس بعازب عن كل ذي واقعية، كما يشهد بذلك أيضا تأثر لهجاتنا المحلية باللغة العربية لحد ملفت للنظر.
ولد الشيخ عبدالله في قرية تسمى بيلي في أرض جولوف التي لها تاريخ سياسي وإسلامي حافل، وقد وافق يوم ميلاده يوم وفاة القطب الجليل سيدي بدي بن سيدين الملقب بحسان الطريقة التجانية خليفة الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي رضي الله عنه، وكان يوم الاثنين الثالث من ذي القعدة سنة 1264ه موافقا الثاني من أكتوبر 1848م فغربت شمس، إذ تطلع شمس
( إذا ما مضى عصر يتابعه عصر )
فوالده هو السيد محمد نياس المجاهد في سبيل الله الضليع في العلم والمعرفة، وولده هذا هو الولد الوحيد له، كما أن والدته (الحاج عبدالله) السيدة خديجة تشام هي وأخوها السيد إبراهيم تشام كليل الوحيدان من أبويهما دمب تبر والسيدة نوتي سيك، ودمب تبر هذا كان عالما كبيرا يلقب بدمب ثاني يقال بأنه هو أول من جاء بالجزء الثاني لمختصر الشيخ خليل حيث حفظه في بلاد شنقيط وأملاه لما رجع، ولا زال يوجد مخطوط لهذا الجزء بخطه أو بخط ولده إبراهيم، وهو حفيد للمختار صاحب الجهاد الكبير المدفون في مقبرة الأولياء في كوبيلو بفوتا طورو وما زال مسجده قائما بشكله القديم رغم توالي القرون عليه، وهذا الأخير ابن الشيخ مسمب تشام شيخ المشايخ في بلاد ما نسمي اليوم بالسنغال، فما من شيخ منهم إلا وأخذ عنه وتتلمذ عليه مباشرة أو بواسطة عنعنة تنتهي إليه، حسب شهادة الشيخ مباكي بوسو بذلك في رسالة له إلى الشيخ إبراهيم نياس، وينسب إليه أيضا إدخال علم النحو في التعليم العربي في مدارسنا القديمة، وأدى ذلك إلى تحسين المخرجات العلمية، وبدأنا نجد لأئمتنا كتابات سليمة، بل والإنشاء الأدبي كما تجلى ذلك في الشيخ عمر الفوتي رضي الله عنه الذي هو منطلق التأريخ للأدب العربي السنغالي.
تلقى الحاج عبدالله نياس التعليم القرآني من أسرته التي هي في العلم عريقة كما شهد المترجم بذلك في كتابه “البر الأبر، في التعريف بأولاد بني بكر” وقد تتلمذ أيضا في بعض أبواب علوم الشرع واللغة على أساتذة مثل أستاذه مختار فانجاي نيانْ، وخاله تفسير إبراهيم تشام كليل، وكان يذكر بأن جل ما حصله من المتون والشروح في كل ما تناوله من العلوم والفنون فببركة شيخه مولانا أبي العباس أحمد التجاني رضي الله عنه بدون تلقين ملقن.
إن الشخصية العلمية والمعرفية لهذا الرجل العظيم تتجلى أولا في تآليفه غير القليلة التي تشهد لكاتبها بذكاء مفرط، وأدبية فذة، وبسالة سافرة في التعبير والتحرير مثل كتابه تنبيه الناس الذي طبع قيد حياته في الجزائر، وكتابه مفيد الأنام، ومنيل المرام، وكتابه الدلائل المحكمة، والأجوبة المفحمة، ومطهر القلوب….
وثانيا تلاميذه الألى منهم ولده البكر الخليفة الذي أجمع أهل عصره بيضهم وسودهم على علمه وفضله بل وتفوقه الصادع في الشعر العربي، فاسمعه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم متدللا ببراعة بيانه:
وجاريت في ميدان مدحك سيدي # من البلغا الشم الكرام
كما أنه هو صاحب هذا البيت الطنان دويه، المحكي صداه في أصقاع الأندية الودية، والمصاطب الأدبية:
… من خصه بواضح البيان # من بين كل البيض والسودان
وهو الذي كتب في ترجمته لنفسه بطلب من حبيبه وشيخه الحاج أحمد سكيرج المغربي بأنه لم يأخذ ولو درسا واحدا من غير والده ونفس الكلام قاله أخوه الشيخ إبراهيم كما هو في شريط له مشهور منشور في اليوتيوب. ومن خريجي مدرسته كذلك ولده الحاج محمد زينب وجميع أولاده ومريده أحمد تشام والشيخ الحسن سيسي جد وسمي الشيخ حسن الإمام السابق لجامع مدينة باي نياس بكولخ، والشيخ أحمد بكار نيانغ، والشيخ عمر كوتا، والحاج مود جاني، والحاج باب فاط ندو سيسي، والشيخ تفسير بالا سيك، وتفسير مصطفى تشام وهذان الأخيران من فوتا … وأعلام آخرون، معالم في الطريق، كما تتجلى ثالثا في شهادات من علماء عصره من المغاربة والشناقطة والسناغلة مما هو مسطور في تقاييد ترجمَتْه، وكنانيش أرّختْه. وأكتفي بشهادة حبيبه القطب الجليل، حامي الشريعة والطريقة مولانا الشيخ السيد الحاج مالك سي في قوله له:
خلَّفتَ خُلِّفتَ في دين وتَدراس.
لم ينحصر جهاد هذا الشيخ في بوتقة العلم تعلما وتعليما بل هو ممن حمل السلاح في وجه العدو الوثني القريب، وفي صد العدو الاستعماري الغريب.
لقد غادر جولوف هو ووالده وخاله المذكور سابقا الشيخ إبراهيم تشام وآخرون من رجال العلم الإسلامي في جولوف وفوتا قاصدين صوب سالم تلبية لصرخة الإسلام من تفسير ألمام مبا جاخو باه وكانوا من طلائع هذا الجيش الإسلامي كما يذكر ذلك المؤرخ السنغالي محمد ديوف في كتابه أعلام الهدى بغرب إفريقيا، وكان هو وخاله وخمسة آخرون القائمين بإيداع جثمان الإمام الشهيد مضجعه المبارك أثناء المعركة وقبل شيوع الخبر في عموم الجيش الإسلامي، حسب وثيقة عندنا بخط أحدهم.
ولقد من الله عليه بحج بيته الحرام وهو جلد في وقت كان الحج كرامة في أبناء قارته، وزار بعد ذلك بسنوات وهو شيخ كبير ضريح شيخنا أبي العباس التجاني رضي الله بمدينة فاس في المغرب وكان قد أخذ ورد هذا الشيخ مبكرا على يدي خاله وصهره الشيخ إبراهيم تشام، وحظي بإجازات كثيرة من شيوخ قطره وما جاوره، وظفر في زيارته لفاس بإجازات أخرى منها ما هي مطلقة وبأسرار عالية عند أهل الله، كما سعد بالملاقاة الحسية لحضرة الشيخ التجاني وكانت تلك مطلبه الأسمى، ونجد تفاصيل هذا الخبر في تقرير ولده لسان حضرته الخليفة محمد أمنة التالي:
مثل الخليفة عبدالله أصلي من # قد نال منه مقامات مقيمات
من حج لله بيت الله محتسبا # وزار في طيبة خير البريات
وزار شيخي في فاس على كبر # لكن يحركه حب الملاقاة
فنال ذلك يقظانا وصافحه # بحر المعارف ينبوع الكرامات
سكن بعد نزوحه من جولوف عدة قرى في إقليم سالم وفي إقليم غامبيا المستعمرة آنذاك من قبل إنجلترا، قبل أن يلقي عصا تسياره أخيرا في مدينة كولخ ويبتني فيها زاويته المشهورة التي ستصبح بعد سنوات قليلة محل جثمانه الطاهر، ومحط رحال الزائرين والمتبركين
نعم كانت وفاته رحمه الله شهر شوال الأبرك عام 1340 ه موافقا .. 1922 م
ذهب سلفا صالحا، ترك خلفا صالحا من أولاد وأتباع قرأ لسان حاله عليهم
تلك آثارنا تدل علينا .. فانظروا بعدنا إلى الآثار
غلام التجاني/ مفال آمنة تشام ابن الإمام الحاج أحمد تبر.