كتب الباحث الجلوفي الحاج مور نياغ
المقدمة:
إنَّ منَ نعم الله تعالى على الإنسانية، أن يمنحهم كل حين رجالا عظمَاءَ، ـ رسُلاً وعلماءَ ومصلحينَ ـ يقفونَ مَعَ الحق أينما وقفَ، ولو ادعى ذلكَ تقديم أرواحِهم لهذا الغرض النبيل. ومما عثرناه عن لِسَانِ الفَيْلسُوفِ اليُوناني سقراط كلمته الخالدة: “أحب الحق وأحب سقراط لكن حبي للحق أعظم” وفي رواية أخرى: “أنَا أحب سقراط ولكن أحب الحقيقة أكثر”.
ولإفريقيا نصيبها في ذلكَ بداية من الرسل والعلماءِ والمصلحينَ. وَقَدْ شَهدَ تاريخ الإنسانية، وخاصة إفريقيا مَهْد الحضارات العالمية، عبقرية واحد من أَبْرَزِ وأشهرِ أبنائها الذي يمكن أن يعدَّ أكبر عَالم وباحث فِي القَرْنِ العِشرينَ وهو البروفسور شِيخ أنتا جُوبْ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ الذي بهر العلماء وخاصة الأوربيين منهم، وذلكَ بغزارةِ علمهِ، وعمق ثقافتهِ، ولجرأته وشجاعته في البوح بِالحق وَلَو على نفسهِ. وكأنه كما يقول المنفلوطي في حق مصطفى كامل: “ما كان مصطفى كامل أذكَى الناس، ولا أعلم الناس، ولا أعقل الناس، ولكنه كانَ أشجعَ الناس، كانَ يفكر فيقتنع، فيصمم، فيمضي، فلا ينثني حتى الموت. كانَ يخطئ أحيانا في اتخاذ الوسائل إلى آماله، ولكنه ما كان يتمهل كثيرا ليتبين أي طريق يأخذ، ولا أي مسلك يسلك. مخافة أن تفتر همته بين الأخذ والرد، فيكون خطؤه في قعوده أكثر من خطئهِ في جهاده” [النظرات، المجلد الثانِي، صفحة: 238].
وبمناسبة ذكرى الخامس والثلاثينَ من رحيلهِ ـ رحمة اللهِ عليهِ ـ إلى جَوَارِ رَبِّهِ؛ أريد أن أقدم لكم هذه المَقَالَة المتواضعة التي عَنونتها بِـ [عبقريَّة البروفسور شيخ أنتَا ديوب]. عَسَى أَنْ تَكونَ ـ المقالة ـ جزءً من مجهوداتي ـ المتواضعة ـ في تخليد بصماتِ الأجدادِ، ومساهمةً لا بأس بهِ في التوعية وَتَذْكير الأحفادِ.
[نبذة عن حياةِ البروفسور شيخ أنتَا]
1ـ الولادة والنشأة:
ولد البروفسور شيخ أنتا ديوب في قرية “جِييْتُو” في منطقة “بَوَلْ” عامَ 1923م، من أبوينِ كريمينِ، فأبوه هوَ السيد “مسمبَ ساسوم ديوب” وأما والدته الكريمة فهيَ السيدة “مغات ديوب”. وهذه الأسرة كانت لها مكانة مرموقة في هذه المنطقةِ، فجده الشيخ “مسمبَ ساسوم” سمي والدهِ كانَ عالما نبيلا، وصوفيا قادريًّا. كانَ محك هذه القرية “جييتو” التي أسسها فيما قيلَ، أحد ملوكِ كجور العظماء. فيمكن القول بأن مسكنهم هذا كانَ حصنًا حصينًا لذا كان الناس يقصدونه من كل فجٍّ.
وأما علاقة هاته الأسرة بالطائفة المريدية، فقد ربطته السيد “مام شيخ أنتا امباك” المشهور بِـ “بُرُومْ غَاوَانْ”، وعلى يد هذا الأخير سلكَ الجد “مسمبَ ساسوم” المريديَّة. ومن ثمرات هذه العلاقة الدينية الوديَّة، سمي البروفسور بالعالم المريدي الكبير “مام شيخ أنتَا” الأخ لأب لمؤسس الطائفة المريدية الشيخ أحمد بمب امباك رحمة الله عليهم.
2 ـ تكوينه العلمي والثقافي:
أ ـ المدارس القرآنية:
إنَّ من عاداتِ أجدادنا الواعينَ لمصير البلد والعالم فيما غبرَ من الزمانِ، إرسال أولادهم إلَى شيخ التعليم في القريةِ، لكي يفطمَ الأبناء معَ الآياتِ القرآنية الكريمة. ولم يخرج الجد “مسمب ساسوم” من هؤلاء الكبار. لأجل هذا بدأ شيخ أنتا ديوب دراستهُ الأولية في الكُتابِ، فقراَ القُـرآن الكريم في قريةِ كوكي حوالي سنة 1927م، بعد وفاةِ والده “مسمب ساسوم ديوب” الصغير، وهو في الخامسةِ من عمرهِ.
ومما رواه بعض الباحثينَ هوَ أنَّ الشيخ أحمد بمبا امبـاك الأخ الكبير لسمي البروفسور مام شيخ أنتَا امباك؛ هوَ أوَّل من علَّم البروفسور حرفا في حياتهِ. على كل حال فالبروفسور أخذ عن الصوفة كثيرا وخاصة المريدية منها؛ والذي يؤيد تأثره في الفكر المريدي الأصيل أنَّ والدته السيدة “مغات ديـوب” أخذها الشيخ “إبراهيمَ فال” باب المريدينَ بعدَ وفاةِ بعلها الأول السيد “مسمبَ ساسومْ”.
ب ـ المرحلة الابتدائية:
ثم إنَّ البروفسور دخلَ المدرسة الفرنسية الموجودة يومئذٍ في مدينة “جُرْبِيلْ”؛ وتركَ فيها بصمات خالدة، فشهدَ له مربوهُ ومعلموهُ نبوغه وذكاءه المفرط منذ نعومة أظفاره. وَبعد سنوات منَ الجهدِ والتعبِ، حصل “شيخ أنتَا” على شهادته الأولى [الشهادة الابتدائية] عامَ 1937م. وقيلَ بأنه كانَ طيلةَ هذه المُدة التي مكثها في “جربيل” يتابع أيضا دراساته القرآنية في مدينةِ جربيل.
ج ـ المرحلة الإعدادية والثانوية:
وبعد حصول البروفسور على الشهادة الابتدائية؛ رحل إلى العاصمة السنغالية مدينة دكار عند ثانوية “فَانْ فَالُو نُوفِينْ” ـ أصبحت فيما بعد تعرف بثانوية “لمين غي” ـ الموجودة قرب جامعة “حمباتِ با” جانب “كَنَالْ 4”. ولكن البروفسور تركها، وتوجه نحو مدينة “انــدر” التاريخيَّة عندَ ثانوية “فهديرب” ـ التي أصبحت منذ عام 1984م تعرف بِ ثانوية “الحاج عمر الفوتي تال” ـ لمتابعة دراسته فيها، قبل أن يرجع إلى ثانوية “فان فالو نوفين” فنالَ في هذه الأخيرة شهادة الكفاءة الاستعمارية، وهي ما يقابل اليوم الشهادة الثانويَّة. ومما يشهد عبقريَّة البروفسور؛ أنَّه في شهر يُوليو سنة 1945م حصل على الشهادةِ البكالوريوس في مادةِ الرياضيات، وفي شهرِ أكتوبر منهَا نالَ على البكالوريوس في الفلسفة. وهذا دليل حي علَى كونه جبلا راسخا في أبجدياتِ علومِ الكبَارِ.
د ـ الدراسات العليا:
سافرَ الشاب الطموح “شيخ أنتَا” إلى فرنسَا لمتابعة دراساته العليا فيها بعدَ أن منحته بلدية دكار ـ يومئذٍ ـ برئاسة السيد “لمين كرا غي” [1872/1968م] منحة دِرَاسِيَّةً. وكان سفره هذا عام
1946م. ثمَّ سجل البروفسور في جامعة “سوربون” ودخل كلية اللغاتِ حيثُ حصل فيها على شهادة الإجازةِ [ليسانس]. ثم على شهادة الدكتوراه بتقدير مشرف، وكذلكَ شهادات أخرى قبلَ أن يرجعَ إلى مهد الانسانية إفريقيا لمساعدة إخوانه للخروجِ من حفر الدونية والتقهقر والخضوع التي دكسهم فيه الغربيونَ في فجر القرن التاسع عشر الميلادي.
3ـ بصماته في السياسة:
شاركَ البروفسور شيخ أنتا ديوب في تأسيسِ “مجموعة الطلاب الأفارقة في فرنسا” [AEE] سنة 1946م فورَ وصله إلى فرنسا. ولم يكتفِ على ذلكَ بل انضم إلى “حزب التجمع الديمقراطيين الأفارقة” ذاكَ الحزب الذي أُسِّس في مدينة “بَمَاكو” بمالي. ثمَّ بدأَ يبذل النفسَ والنفيس لأجلِ الحزبِ وتقدمهِ حتَّى وجدَ الحزب شعبية واسعةً في فرنسا وفي إفريقيا في زمن قصير جدًّا؛ ثم عيَّنوه السكرتير العام لجمعية الطلاب التابعة لـ “حزب التجمع الديمقراطيين الأفارقة” السالفِ الذكرِ بداية من السنة 1951م إلى سنة 1953م. وعلى هذه العجالة يمكن اعتبار هذه الخطوات الأولى للبروفسور شيخ أنتا ديوب فِي الساحة السياسة.
وبعدَ الاستقلال عادَ إلى السنغال، وأسس حزبه [BMS]عام 1961م ثمَّ عارضَ سياسة الرئيس سنغور بلا خفاء، وهذا ما أدى إلى دخوله السجن عام 1963م. وأخذ سنغور وحكومته يضايقونه ويعرقلونَ مشروعاتهِ أيضا.
وبعدَ خروجه منَ السجن لم يجلس البروفسور مكتوف الأيادي بل قامَ بتأسيس التكتل السياسي الوطني السنغالي [FNS] للمواجهة من جديد. وركزَ جل اهتماماته وتحركاته السياسية ـ يومئذ ـ في العمل لأجل اخراجِ السجناء السياسيين [أمثال الرئيس ممدو جا وأصدقائه] من غياهبِ السجنِ، ولكن الرئيس سنغور قامَ بمنع هذا التكتل منَ التحرك في الساحةِ السياسية عام 1964.
في سنة 1974م سمح الرئيس سنغور تعدد الأحزاب السياسية في السنغال، فاستغلَّ البروفسور هذه الفرصة، وأسس حزبَ “التجمع الديمقراطي السنغالي” [RND] ولكن الرئيس سنغور بعبقريته الديكتاتورية عرضَ طريقته من جديد، وأخرجه من الحلبة السياسية بعدَ أن ادعى إلى تغير الدستور وتحديد الأحزاب السياسية إلى ثلاثة أحزاب فقط، تمثلون الشعب السنغالي؛ وهذه الثلاثة هي: [UPS] ممثل الاشتراكيينَ، و[PDS] ممثل التيار الديمقراطي و [PAI] ممثل الماركسيينَ اللينينيينَ. هذا القرار الذي يسد جميع الأبواب امام البروفسور الذي كان يمثل التيار الديمقراطي.
ثم إن البروفسور استأنفَ أعمال حزبه (RND) عندما وصل الرئيس عبدو ديوف إلى سدة الحكم سنة 1981م، وسمح بتعدد الأحزاب السياسية في السنغال بدون قيد. ورغـم كون هذا الأخير من خريج مدرسة سنغور في السياسة إلا أنه أفضل منه بكثير في كيفية تعامله مع معارضيه في ساحة السياسة. ولكن بصمات “شيخ أنتَا” في الحلبة السياسيَّةِ صارت قليلة جدًّا بعدَ هذه الفترةِ، وذلكَ لاهتمامهِ بنشر العلمِ وإيقاظ ضمير الجماهير الإفريقيَّة. ومنَ الحفلات التي أقامها للتوعيَّةِ “مِيتِنْغ” في مدينة “بكين” عام 1982م ومدينة “تياروي” عام 1983م و”بكين” أيضا عامَ 1984م وكذلكَ مدينة “تييس” عام 1985م.
وقد عرقلَ دخول البروفسور الساحة السياسية كثيرا من مشروعاتهِ، لأنَّ الناس في بلدي يحبون المناضلَ والثائرَ ولكنهم يميلونَ دائما إلَى صاحب الثروةِ والجاهِ. والدليل على ذلكَ أن البروفسور رغم غزارةِ علمهِ ومكانته المرموقة بين العلماء في الشرق والغربِ لم يحظَ من التمتع بلقب البروفسور الكامل في الجامعة الكبير بدكار إلا بعدَ رحيل الرئيس سنغور. زد على ذلكَ محاولات سنغور المتكررة لإيقاف مشروعات في مجال الثقافةِ.
4ـ حياته الثقافية والعلمية:
سأل الصحفي البروفسور بعدَ نهاية مناقشته لنيل شهادة الدكتوراه، ماذا يفعل يخطط الأستاذ الآن؟ فقال ما معناه: “الرجوع إلى إفريقيا السوداء لمساعدةِ الأهلِ والأحبابِ” وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصهِ وعمل المؤوب لأجل القارة السمراء. وكتابه: [الأمم الزنجية والثقَافة] دليل حي على ذلكَ.
اتخذَ شيخ أنتَا ديوب مجال التربية ولتعليم حقلا لإنقاذ شعبهِ من فخ المستعمرين وعملائهم منَ العلماء والرؤساء في القارة. فجاهدَ وقاومَ بأسلوبه الرائع وهو إلقاء المحاضرات للتوعية وتأليف الكتب للأجيال القادمة. لأجل هذا الغرض توجَ عام 1966م في العاصمة السنغالية دكار خلال “المهرجان العالمي للثقافة الزنجية” كأكبر عالم زنجي وأشهرهم تأثيرا في القرن العشرينَ الميلادي.
فالبُروفسور شيخ أنتَا فيلسوف وعالم آثار ومؤرخ ولساني ولغوي أيضًا؛ يشهد ذلك مؤلفاته الكثيرة والقيمة. وهذا المستوى العلمي الرفيع الذي حصله البروفسور مهد له الطريق لعبور بعض العراقل التي كان العلماء الغربيون ينصبونها له. ومن هذه العراقل طرقة القضية اللغوية التي دارت بينه وبين الرئيس سنغور؛
طُرفة [SIGGI] و [TAXAW]:
أراد البروفسور شيخ أنتَا إيصالَ أفكاره الإصلاحية والتغييريَّةِ إلى الشعب السنغالي وخاصة المثقفينَ منهم، فَأسَّسَ صحيفة باسمِ [SIGGI] فبدأت الصحيفة تقطع مسافات كبيرة في مجال التوعية وإيقاظ الضمير؛ وعندما رأى الرئيس سنغور أن هذه الجريدة لا تعمل لصالحهِ ولا ترقص أيضا بإشاراتهِ، أخذَ في التفكير عنَ الحيل التي يتمسك بها لعرقلة هذا المشروع النبيل قبلَ أن يسبق السيف العزلَ؛ وقد نجح في ذلك نسبيا، ولكن بطرفـة عجيبة ومضحكة جدا، وهي دعواهُ أن كلمة (SIGGI) فيها خطأ فادح جدا، ولا يجوز لمن يرتكب مثل هذا الخطإ في الاسم أن يسمح له بالنشرِ والعمل في ميدان الصحافة. إذا فلا بد من منع ظهور الصحيفة؛ والخطأ هو أن تشديد حرف (G) لا يتماشى مع هذه الكلـمَة في اللغة الولوفيَّةِ. ولكنه ـ سنغور ـ حينما يفكر في ذلكَ نسي المثل الولفي القائل: “فلا بد للفـأر أن يكثر من الحفرات إنْ هوَ أراد أن يعيشَ طويلاً”، فمسكَ البروفسور بخيوطِ هذا المثل فتجاهلَ أمرَ (SIGGI) ولجأ إلَى مرادفهِ في الولوفية وهيَ كلمة (TAXAW) وسماها صحيفته الجديدة! ترَى! ما هذه البراعةِ والفطنةِ.
إن البروفسور شيخ أنتَا عملَ كثيرا في هذا المجال، ونجاحه أيضا شيء ملموس، وخاصة خارجَ السنغال، عندَ الذينَ يعرفون قيمة العلم ويقدرونَ شأن العالم.
5ـ وَفَاةُ الْعَالِم وَالمُؤَرِخ شِيخْ أَنْتَا دِيُوبْ:
في شهر يناير من سنة 1986م سافرَ البروفسور شيخ أنتَا ديوب إلَى مدينة ياوندي Yaoundé عاصمة جمهوريَّةِ كاميرون Cameron تَلبيةِ لِدعوةِ إخوتهِ الأفارقة المثقفين، الذين استدعوه لإلقاء محاضرة؛ وكان عنوان محاضرته يومذاكَ: [النوبة؛ مصر وإفريقيا السوداء]، وكان ذلك يومَ الثامن (08) من هذا الشهر الذي ذكرناهُ في الأعلَى.
توفي البروفسور، أعجوبة زمانه، وفخر وطنه، وقارته؛ فخر الإنسانية جمعاءَ، “شيخ أنتا ديوب” في يوم السابعِ (07) من شهر فبراير سنة 1986م في العاصمة السنغاليَّة دكار؛ بعد عمر قصير، كثير الفوائدِ والمنافعِ، فقد قضى حيَاته كلـها بين البحثِ والتعليم والتأليف وإلقاء المحاضرات للتوعيَّةِ والتبيينِ.
ثمَّ نقلَ جثمانه إلَى مَسقطِ رأسهِ قَرية “جِييْتُو” Thieytou ودفنَ بجوار جده، وسميِّ والده الشيخ “مسمبَ ساسوم ديوب” رحمة الله عليْهما.
وبعدَ وفاتِهِ بمدة غير طويل، قامَ أعداؤه، أعداء العلم والمعرفةِ بتخريبِ مخبرته في “إفان” وهم بذلكَ يحسبونَ أنَّهم سيهدمونَ ما بناه هذا الهمامُ القمقامُ. ويطيب المقام هنا أن نذكر هؤلاء المفلسينَ؛ الذينَ يعتقدون ـ جهلاً ـ بأنَّ دَفنَ الظلِّ لاَ يمنع من ظهورهِ يقول أمير الشعراء:
ما حطموكَ وإنما بكَ حُطموا***من ذَا يحطِّمُ رفْرَفَ الجَوْزَاءِ
سنة 1974م سمح الرئيس سنغور تعدد الأحزاب السياسية في السنغال، فاستغلَّ البروفسور هذه الفرصة، وأسس حزبَ “التجمع الديمقراطي السنغالي” [RND] ولكن الرئيس سنغور بعبقريته الديكتاتورية عرضَ طريقته من جديد، وأخرجه من الحلبة السياسية بعدَ أن ادعى إلى تغير الدستور وتحديد الأحزاب السياسية إلى ثلاثة أحزاب فقط، تمثلون الشعب السنغالي؛ وهذه الثلاثة هي: [UPS] ممثل الاشتراكيينَ، و[PDS] ممثل التيار الديمقراطي و [PAI] ممثل الماركسيينَ اللينينيينَ. هذا القرار الذي يسد جميع الأبواب امام البروفسور الذي كان يمثل التيار الديمقراطي.
ثم إن البروفسور استأنفَ أعمال حزبه (RND) عندما وصل الرئيس عبدو ديوف إلى سدة الحكم سنة 1981م، وسمح بتعدد الأحزاب السياسية في السنغال بدون قيد. ورغـم كون هذا الأخير من خريج مدرسة سنغور في السياسة إلا أنه أفضل منه بكثير في كيفية تعامله مع معارضيه في ساحة السياسة. ولكن بصمات “شيخ أنتَا” في الحلبة السياسيَّةِ صارت قليلة جدًّا بعدَ هذه الفترةِ، وذلكَ لاهتمامهِ بنشر العلمِ وإيقاظ ضمير الجماهير الإفريقيَّة. ومنَ الحفلات التي أقامها للتوعيَّةِ “مِيتِنْغ” في مدينة “بكين” عام 1982م ومدينة “تياروي” عام 1983م و”بكين” أيضا عامَ 1984م وكذلكَ مدينة “تييس” عام 1985م.
وقد عرقلَ دخول البروفسور الساحة السياسية كثيرا من مشروعاتهِ، لأنَّ الناس في بلدي يحبون المناضلَ والثائرَ ولكنهم يميلونَ دائما إلَى صاحب الثروةِ والجاهِ. والدليل على ذلكَ أن البروفسور رغم غزارةِ علمهِ ومكانته المرموقة بين العلماء في الشرق والغربِ لم يحظَ من التمتع بلقب البروفسور الكامل في الجامعة الكبير بدكار إلا بعدَ رحيل الرئيس سنغور. زد على ذلكَ محاولات سنغور المتكررة لإيقاف مشروعات في مجال الثقافةِ.
4ـ حياته الثقافية والعلمية:
سأل الصحفي البروفسور بعدَ نهاية مناقشته لنيل شهادة الدكتوراه، ماذا يفعل يخطط الأستاذ الآن؟ فقال ما معناه: “الرجوع إلى إفريقيا السوداء لمساعدةِ الأهلِ والأحبابِ” وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصهِ وعمل المؤوب لأجل القارة السمراء. وكتابه: [الأمم الزنجية والثقَافة] دليل حي على ذلكَ.
اتخذَ شيخ أنتَا ديوب مجال التربية ولتعليم حقلا لإنقاذ شعبهِ من فخ المستعمرين وعملائهم منَ العلماء والرؤساء في القارة. فجاهدَ وقاومَ بأسلوبه الرائع وهو إلقاء المحاضرات للتوعية وتأليف الكتب للأجيال القادمة. لأجل هذا الغرض توجَ عام 1966م في العاصمة السنغالية دكار خلال “المهرجان العالمي للثقافة الزنجية” كأكبر عالم زنجي وأشهرهم تأثيرا في القرن العشرينَ الميلادي.
فالبُروفسور شيخ أنتَا فيلسوف وعالم آثار ومؤرخ ولساني ولغوي أيضًا؛ يشهد ذلك مؤلفاته الكثيرة والقيمة. وهذا المستوى العلمي الرفيع الذي حصله البروفسور مهد له الطريق لعبور بعض العراقل التي كان العلماء الغربيون ينصبونها له. ومن هذه العراقل طرقة القضية اللغوية التي دارت بينه وبين الرئيس سنغور؛
طُرفة [SIGGI] و [TAXAW]:
أراد البروفسور شيخ أنتَا إيصالَ أفكاره الإصلاحية والتغييريَّةِ إلى الشعب السنغالي وخاصة المثقفينَ منهم، فَأسَّسَ صحيفة باسمِ [SIGGI] فبدأت الصحيفة تقطع مسافات كبيرة في مجال التوعية وإيقاظ الضمير؛ وعندما رأى الرئيس سنغور أن هذه الجريدة لا تعمل لصالحهِ ولا ترقص أيضا بإشاراتهِ، أخذَ في التفكير عنَ الحيل التي يتمسك بها لعرقلة هذا المشروع النبيل قبلَ أن يسبق السيف العزلَ؛ وقد نجح في ذلك نسبيا، ولكن بطرفـة عجيبة ومضحكة جدا، وهي دعواهُ أن كلمة (SIGGI) فيها خطأ فادح جدا، ولا يجوز لمن يرتكب مثل هذا الخطإ في الاسم أن يسمح له بالنشرِ والعمل في ميدان الصحافة. إذا فلا بد من منع ظهور الصحيفة؛ والخطأ هو أن تشديد حرف (G) لا يتماشى مع هذه الكلـمَة في اللغة الولوفيَّةِ. ولكنه ـ سنغور ـ حينما يفكر في ذلكَ نسي المثل الولفي القائل: “فلا بد للفـأر أن يكثر من الحفرات إنْ هوَ أراد أن يعيشَ طويلاً”، فمسكَ البروفسور بخيوطِ هذا المثل فتجاهلَ أمرَ (SIGGI) ولجأ إلَى مرادفهِ في الولوفية وهيَ كلمة (TAXAW) وسماها صحيفته الجديدة! ترَى! ما هذه البراعةِ والفطنةِ.
إن البروفسور شيخ أنتَا عملَ كثيرا في هذا المجال، ونجاحه أيضا شيء ملموس، وخاصة خارجَ السنغال، عندَ الذينَ يعرفون قيمة العلم ويقدرونَ شأن العالم.
5ـ وَفَاةُ الْعَالِم وَالمُؤَرِخ شِيخْ أَنْتَا دِيُوبْ:
في شهر يناير من سنة 1986م سافرَ البروفسور شيخ أنتَا ديوب إلَى مدينة ياوندي Yaoundé عاصمة جمهوريَّةِ كاميرون Cameron تَلبيةِ لِدعوةِ إخوتهِ الأفارقة المثقفين، الذين استدعوه لإلقاء محاضرة؛ وكان عنوان محاضرته يومذاكَ: [النوبة؛ مصر وإفريقيا السوداء]، وكان ذلك يومَ الثامن (08) من هذا الشهر الذي ذكرناهُ في الأعلَى.
توفي البروفسور، أعجوبة زمانه، وفخر وطنه، وقارته؛ فخر الإنسانية جمعاءَ، “شيخ أنتا ديوب” في يوم السابعِ (07) من شهر فبراير سنة 1986م في العاصمة السنغاليَّة دكار؛ بعد عمر قصير، كثير الفوائدِ والمنافعِ، فقد قضى حيَاته كلـها بين البحثِ والتعليم والتأليف وإلقاء المحاضرات للتوعيَّةِ والتبيينِ.
ثمَّ نقلَ جثمانه إلَى مَسقطِ رأسهِ قَرية “جِييْتُو” Thieytou ودفنَ بجوار جده، وسميِّ والده الشيخ “مسمبَ ساسوم ديوب” رحمة الله عليْهما.
وبعدَ وفاتِهِ بمدة غير طويل، قامَ أعداؤه، أعداء العلم والمعرفةِ بتخريبِ مخبرته في “إفان” وهم بذلكَ يحسبونَ أنَّهم سيهدمونَ ما بناه هذا الهمامُ القمقامُ. ويطيب المقام هنا أن نذكر هؤلاء المفلسينَ؛ الذينَ يعتقدون ـ جهلاً ـ بأنَّ دَفنَ الظلِّ لاَ يمنع من ظهورهِ يقول أمير الشعراء:
ما حطموكَ وإنما بكَ حُطموا***من ذَا يحطِّمُ رفْرَفَ الجَوْزَاءِ
[عَبْقَريَّة البُرُوفِسور شِيخ أنتَا جُوبْ]
كانَ لبروفسور شيخ أنتَا مكانة مرموقة بينَ العلماء والمثقفينَ، وخاصة في إفريقيا السوداء، وذاكَ لِغزَارَةِ عِلمهِ، وَتَعمُّقِهِ فِي عِلْم المِصْريَاتِ الَّذِي كَانَ ـ مِنْ قَبلُ ـ بِضاعةَ الباحثينَ الأروبيينَ. وَقد شَغلَ بَالَ البَاحِثِينَ فِي تَاريخ الإنسانية حَضَارة مِصرَ القديمة، واهتموا بها غاية الاهتمامِ أيضًا. ومن هؤلاء العلماء الباحث واللغوي الفرنسي جان فرانسوا شامبليون الصغير [1790/1832م]. فهذا المؤرخ الشاب قامَ بفك الرموز الهيروغليفيَّة بعدَ دراسات طويلة قام بهَا. وقد شهدَ طموحهُ وحبه العميق لاكتشاف تلكَ الحَضَارة القديمة رسالته التي وجهها إلَى أخيه الكبير جاك جوسيف شامبليون فيجياك [1778/1867م] وهاكَ نص الرسالة: “أريد أن أقوم بدراسة معمقة ومتواصلة لهذه الأمة القديمة (الأثرية). يملَؤني الحماس، الذي قادني إلى دراسة آثارهم وقوتهم ومعرفتهم، بالتقدير، سيكبر كل هذا إلى ما هو أبعد من ذلك إذ سأكتسب تصورات جديدة. من بين كل الأشخاص الذين أفضلهم، سأقول بأنه لا أحد عزيز على قلبي كالمصريين.” شامبليون، 1806. وَقد تبعه في ذاكَ أخوه الكبير شامبليون فيجياك السالفِ الذكر، من قامَ بنشر جل دراسات شامبليون الصغير، ومن أشهرها كتابه: [القواعد النحوية للغة المصرية القديمة]. وهذا الأخير هوَ من مؤسسي علمَ المصريات الذي كَشَفَ كثيرًا عن تاريخ مصر والأفارقة. وقد توفي هذا العبقري في بداية الأربعيناتِ منَ القرنِ التاسع عشرَ الميلاديِّ.
وعبقرية البروفسُور شيخ أنتَا يمكنُ أن يظهرَ جليًّا في علم المصريات (Egyptology) “هو أحد فروع علم الآثار وهو علم يختص بدراسة تاريخ مصر القديمة ولغتها وآدابها ودياناتها وفنونها وتعدّ الحضارة المصرية من أقدم حضارات التاريخ.” لأنه لم يهتم به قبله من الأفارقة مثلما اهتمَّ به البروفسور. وقد بدأ هذا الاهتمامُ قبلَ المرحلة الجامعية وذلكَ عندَما كانَ تلميذًا في السنغال. ثمَّ وَاصلَ هذا الجُهْد بعدَ سفره إلى فرنسَا لاستكمال دراساته العليَا. ويشهد ذلكَ أيضا كتاباته الوافرة في الثقافة الإفريقية وتاريخ مصر القديمة منهَا:
1ـ إفريقيا السوداء ما قبل الاستعمار.
2ـ الوحدة الثقافية لأفريقيا السوداء.
3ـ الأمم الزنجية والثقافة أو الأصول الزنجية للحضارة المصرية.
البروفسور شيخ أنتَا والحضارة المصرية:
عرف البروفسور شيخ أنتَا لدى المثقفين بـ [الفِرعون الأسود]، لا لأي شيء إلا أنها ركز جل دراساته في الحضارة المصرية القديمة وأصل المصريينَ. والسؤال الذي يطرح نفسَه هوَ ما هوَ: ما هو اسهامات البروفسور في المصرياتِ؟
إنَّ علماء الغرب في بداية القرن التاسع عشرَ الميلاديِّ، ركزوا كل مجهوداتهم في مصر وتاريخها القديم، وذلكَ بعدَ أن اكتشفوا بأنَّ الجنس الذي استعمروهُ، وأذاقوهُ جميع أنواعِ العذابِ، هوَ من قامَ بوضع اللبنةِ الأولَى للحضارة الانسانيَّة العالمية. وهذه الحقيقة كانت بمسابة صاعقة في آذانهم. فبادروا إلَى حفر كنوز مصر للاستفادة منها، وثانيا لتزوير بعض الحقائق فيهَا؛ حيث حاولوا ـ ظلما ـ نسبة الحضارة المصرية إلَى غير الأفارقةِ. وقد أكدَ الباحث المصري مختار السويفي في كتابه: [أم الحضارات ملامح عامة لأول حضارة وضعهَا الانسان/ ط، عام 1999م، صفحة 19] أنَّ الحضارة المصرية كانت إفريقية زنجيَّة. وقد نحى نحوه من قبله جل العلماء المنصفينَ منَ الغربِ.
والبروفسور عندما قامَ وشمَّر لإثبات هذه الحضارة الزنجية، لم يذهب معَ بضاعة مزجاة، بل زوَّد نفسه بجميع البضائع التي يحتاج بها في سفرهِ هذَا. مثل التقنيَّة، اللسَانِيَاتِ، وَالتَّاريخِ، علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا. ومع شيء من العجالةِ أذكر بعضًا منَ الحجج التي وضعها البروفسور شيخ أنتا جوب على طاولةِ النقاشِ لدعمِ آرائِهِ وأفكاره لإثباتِ زِنجيَّةِ هذه الحضارة المصرية الزنجية، ما يلي:
1ـ أوَّل من سكنَ أروبَا:
ربما يقول القارئ فما علاقة هذه النقطةِ بمسألةِ زنجيَّة حضارة مصر؛ والجوابُ بسيطٌ جدًّا لأنَّ هذه النقطة يمزق بعض خيوطَ الأملِ التي مسكَ بها الذي يرجعونَ نسبة هذا التأسيسِ إلَى غَيْر الأفَارِقَة. يقول شيخ أنتا ديوب بأنَّ أوَّل من استوطنَ أروبَا هوَ الانسانُ الكرو مانيون [L’homme de Grimendi] وذلكَ منذ 2000 ق م. ويفهم من هذا الكلام أنَّ أصل هذا الجنس إفريقي لأنَّ الانسان الأول ظهر في منطقة كينيَا منذ آلاف السنينَ. وربما يقول سمبَا وكيف نفهم هذا وآدم عليه السلام لم ينزل في منطقةِ إفريقيا، ولكن الجواب يكمن في أنَّ الباحثين في التاريخ وعلم الآثار يصنفونَ الإنسان إلى أصناف، فيقولون مثلا: الانسان العاقل الأول، والانسان العاقل الحديث.
2ـ مهد الحضارات في قلب البلاد الزنجيَّة:
ذهبَ البروفسُور إلَى مهدَ الحضاراتِ ليست إفريقية فحسب، وقد سافرَ إلى أبعدِ من ذلكَ فقالَ بأنه كان زنجية. وهذا يفسره ما قلته في النقطَة الأولى، علاوة على ذلكَ أنه يقول في كتابهِ: [الأصول الزنجيَّة للحضارةِ المصريَّة/ صفحة 175/ ترجمة: حليم طوسون] ما يلي: “في جميعِ تلكَ البلدانِ، كانت هناكَ أصلا حضارات زنجيَّة عندمَا جاءَ إليها الهندوـ أوروبيين في السنوات الألفِ الثانية قبلَ الميلادِ، وكانوا آنذاكَ رحلاً خشنينَ” وقد ذكرَ في الصفحات التي أعلاها: ” وقَالَ أيضًا للذينَ خالفوهُ هذا الرَّأْيَ ويريدونَ نسبةَ الحضارة المصرية إلى غيرهم: “وهناك حقيقة لا تقل غرابة وهي أن الهنودـ الأروبيينَ لم يؤسسوا قَطُّ حضارةً في مهدهم الأول، أي في السهول الأوروبية الآسيوية.” فيمكن القول بأن قضية مهد الحضارات وأصل الانسانِ الأول بنسبة لبروفسور شيخ أنتَا ديُوبْ لا يخرجَانِ منَ إفريقيَا. ومن الحجج والبراهينَ التي جرَّهَا الباحث القدير لإثباتِ زنجيَّةِ الحضارة المصرية، ناهيكَ عن إفريقيتها ما يلي:
أـ الملَكية:
فَالمَلَكيَّة المَوْجودة في إفريقيا السوداء يشبه كثيرا تلكَ الملكية التي عرفها المصريونَ القدامى. في نظام الحكم وفي بعض الطقوس أيضًا. وهذا التقارب الذي لا تجده اليوم إلا في الزنوج لدليل حي على أن الزنوج هم من قاموا بِإنشاء مهد الحضاراتِ. يقول صاحب كتاب [تاريخ التاريخ] “إنَّ ما اتفق عليه المؤرخونَ شرقا وغربا؛ أن التاريخ هو مجموع العوارض والطوارق التي كانت تستحق أن تحفظ، وما لم يذكر فلسبب عدم أهميتهِ؛ أو كما قيل فيما بعد؛ إنه لم يكن له نتائج ظاهرة” وقد اشترك في حفظ التاريخ علم الآثارِ كثيرًا. لأجل هذا لا يكون منَ الانصافِ نفي هذه البراهين التي أتى بها البروفسور وأنصاره. يقول في كتابه [الأصول الزنجية والحضارة المصريَّة/صفحة 159] “ومن السمات الأساسية البارزة أيضا، مفهوم الملكية المشترك بصفة عامة بينَ مصر وبقيَّة إفريقيا السوداء”. ففي مصر لم يكن الملك يحكم إلا إذا كانَ قويًا وإلا يقتل أو يهمش حتى لا يسمع له أثرًا. لأن المَلكَ عندهم هوَ رمزُ المُلكِ، فإذا وجد في شخصيته ما يشينَ الملك مثل الجروح والعاهةِ وغيرهمَا، فلا يسمح له بمعانقةِ العرش أيا كانَ. يقول البروفسور في الكاتب السالف الذكر، [صفحة 160]: “وهذا المفهوم الحيوي أساس لكل الملكيات الإفريقية التقليدية، وأقصد بذلكَ كافة الملكيات غير المغتصبةِ” ولم يكتف بذلكَ بل جاءَ بقصة دميل “لتسكابي” الذي تولى عرش كجور عندما أصيب ورثا الملك بجروح أثناء إحدى معاركهم. وقل مثل ذلك في قيام مملكة كجور، لأن الملك الحقيقي “همري انغوني سوبل فال” الذي هزم جيش “بُورْبَ جلوف” لم يكن الابن البكر لوالده ديفو انجوغو”. قيلَ بأنَّ أخوه الكبير “مدستَ” ولي العهدِ كانَ له عاهة في جسمهِ، وقيلَ بأنه كانَ أعور. [راجع فضلا كتاب: دراسة حضارة شعوب إفريقيا الغربية، للأستاذ، انداك لوح].
ب ـ اللُّغَاتُ:
“بقدر ما توجد صعوبة في إثباتِ علاقة القرابةِ بين اللغة المصرية القديمة واللغات الهندوـ أوروبية والسامية، بقدر ما يسهل إثبات رابطة الوحدة الوثيقة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الزنجية.” [الأصول الزنجية للحضارة المصرية/صفحة: 176]. وجل الباحثينَ يثبتونَ هذا التجانس والتشابه بينَ لغة المصريين القدامى وبينَ لغة الزنوجِ، ولكن البعض يحاولونَ تفسير هذا التقارب بكيفية بعيدة عنِ المنهجية والموضوعيَّة. فإذا رجعنا إلَى اللغةِ الولوفيَّة نجدُ هذا التقارب جليًّا وظاهرًا، مثلَ ظُهورَ شَمس الظهيرةِ. ولأهمية هذا التماثل خصص لهُ البروفسور فصلاً ووسَّعَ فيهِ، في كتابه [الأصول الزنجية للحضارة المصريَّة] من صفحة [180 إلَى صفحة 226]. كما قدم هذه الدراسةِ العلمية إلى جمهور العلماء والأكاديميين في الندوة العالمية التي أشرف عليها اليونسكو في مصر عام 1974م لدراسة أصل الأصل الحضارات المصرية. يقول البروفسور: “ربما تكون لغة الولف، وهي لغة سنيغالية يجري الكلام بها في أقصى غربي إفريقيا على المحيط الأطلنطي، تشبه كثيرا اللغة المصرية، مثلها في ذلك مثل اللغة القبطيَّة” [تاريخ إفريقيا العام/المجلد الثاني/حضارات إفريقيا القديمة/ صفحة: 62].
فبواسطة اللغة أيضا أثبتَ البروفسور على أن مملكةَ غانَا كانت زنجية أيضا، بخلافِ ما ذهبَ إليه بعض الباحثينَ، وهذه الإمبراطورية الزنجية كانت من أكبر الممالك التي عرفها تاريخ إفريقيا. يقول في كتابه [الأصول الزنجية للحضارة المصرية/ صفحة: 178] “وَهُناك كذلك فاربا حسين دي فالاتاـ وقد كتبَ ابن بطوطة ايم حسين بشكل صحيح بالطبع لأنه اسم عربي. وفالاتا، دونت فالاتن، وهو ما يبدو انعكاسا لنهاية الكلمة بلغة البربر. وفيما عدا ذلك لا يزال تركيب هذه الكلمة كما هو حتى يومنا هذا، وهي تنطق فالاتا. وكلمة فاربا تشير إلى وظيفة إدارية بلغة السيرير، وقد انتقلت حرفيا إلى لغة الولوف. “وكان ملك غانا يلقب ماجا” فهي كلمة قد تعود إلى القرنِ الثالث قبل الميلادِ، مثل لغة السراكوله، إذا افترضنا أنها كانت اللغة المستخدمةِ أصلاً في هذه الإمبراطورية.”.
ج ـ النظامُ الأُمومي:
لاَ يوجد في تاريخ العالم، نظام أشبه بكثير النظام الأمومي المصري من النظام الأمومي الموجود فِي إفريقيا السودَاءِ. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تلك القرابة التي تلوح علمها بينَ حضارة المصريينَ القدامى حضارة الزنوجِ. يقول المثل الولوفي: “كُ أَمُولْ يَايْ نَمْبُو مَامْ” فعلى الباحثينَ أن يمسكوا بإرشادات البروفسور وأنصارهِ إلى أن يجدوا غيرهُ.
ففي غربِ إفريقيا وخاصة السنغال نَجد أن الوراثة فيها كانت أمومية [Matrilinéaire] خذ مثلا مملكة “بَوَلْ” التي كانت ملوكها يحملونَ لقبَ “تينج”، وخلافة دميل “همري انغوني سوبل” في القرن السادس عشر الميلادي دليل حي على ذلكَ. وهذه العادة هيَ ما أثر في بعض القبائل الافريقية حيثُ تنسبُ الشخص إلَى أمِّهِ، يقولونَ مثلاً: “أحمد امباك غيدِ فاطمَ” وَ “مور خُجَا سي” وَ “لتجور انغوني لاتير ديوب” وَ “لمين كورَ غي”. يقول البروفسور شيخ أنتَا ديوب: “يعتمد النظام الاجتماعي في مصر على النظام الأمومي، شأنه في ذلك شأن بقية إفريقيا السوداء. وعلى النقيض من ذلك لم يتمكن أحد أبدا من إثبات وجود نظام أمومي في العصر الحجري القديم في حوض البحر الأبيض، انفردَ بهِ أبيض” [الأصول الزنجية للحضارة المصرية/صفحة: 164].
د ـ الأنبياء وأرض مصر:
فقد تعلَّم البروفسور القرآن الكريم، وتأثر ذلكَ في مسيرتهِ رحمة الله عليهِ. فالقرآن بنسبة للباحثينَ والعظماء ليس كتابَ تبرك فحسب، وإنما هوَ كنز ثمين يمكن للمرء بواسطتهِ ـ الكتاب ـ أن يكشفَ كثيرا من تاريخ الأمم الغابرة. ومن هؤلاء بنو إسرائيلَ الذين ذكرهم القرآن في آيات عدة. ومن أشهر نبي هؤلاء القوم نبي الله موسى عليهِ السلام [وقالَ موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم] سورة يونس، آية: 88. وقصته معَ فرعون لدليل حي على قدم الحضارة المصرية، علاوة على ذلكَ يقول البعض بأنَّ موسى عليه السلام كانَ أسمر اللونِ، بيدَ أنَّ هذه التسمية نوع منَ التلطف معَ أصحاب اللونِ الأسود.
وقبله مرَّ في مصر أم الدنيا، نبي الله يوسف عليه السلام. وقصة هؤلاء الأنبياء مليء بالإشارات التي تقودُ المرء إلَى أبجدياتِ تاريخ الإنسانية.
يرى البروفسور بأنَّ مرورَ نبي الله إبراهيم عليه السلام في مصر قد خلَّفَ آثارا واضحة تثبت أصل زنجية الحضارة المصرية؛ وذلكَ لأنَّ الختان هوَ مما انفردَ بهِ الزنوجُ، ونبي الله إبراهيم أثبت له التوراة ذلك لما زارَ مصر وزوج بهاجر الزنجية عليها السلام وهذه الأخير هي أم إسماعيل عليه السلام. يقول البروفسور شيخ أنتَا: “كان المصريون يمارسونَ الختان منذ عصور ما قبلَ التاريخ، وهم الذين نقلوا هذه الممارسة إلى العالم السامي بصفة عامة (اليهود والعرب)، وبالأخص إلى من كان هيرودوت يسميهم السوريين.” [الأصول الزنجية للحضارة المصرية/صفحة: 157] ويقول في الصفحة التي تليها: “وبوسعنا أن نستنتج أيضا من كافة التفاصيل الواردة في التوراة حول ختان إبراهيم، إثر زواجه من هاجر الزنجية المصرية، بعد أن بلغ التسعين من عمره، وكذلك موسى ومن بعده اليهود، أن “الساميين” لم يمارسوا الختان إلا بعد اتصالهم بالعالم الأسودِ، وهو ما يتطابق مع شهادة هيرودوت.”
وأنا أرى ـ حسب رأيي المتواضع ـ أنَّ في القرآن الكريم آيات كثيرة لو تتبعناها، ودرسناها دراسة عميقة، سنصلَ إلى بعض الحقائق التي أشارَ إليها البروفسور رحمة الله عليه. وبالأخص قصة موسى عليه السلام.
[الخلاصة]
وزبدة القول في هذا المقال هي أن نعرفَ بِأنَّ العلم لا يعرف اللونَ ولاَ الجنس. والحقيقة هيَ الحقيقةَ ولو ظهرت في أرضِ “امْبُولاَ” أوْ “خَبْبَانْ”. فقد كانَ بعض الزعماء والعلماء في غرب يرونَ بأن البروفسور كانَ يدعي ذلك ـ زنجية الحضارة المصرية ـ أن يحرضَ الأفارقة إلَى طلبِ الاستقلال من الغرب المستعمر الغَاشِم. فالبروفسور كان يقول ويردد دائما: “استعدوا وَتسلحوا بالمعرفةِ، واحفظوا تراثكم الثقافي التليد”. وَيقول الحكيم السنغالي الشيخ أحمد التجاني سي في هذا الصددِ:
يا أيها الأولاد إن سموكميزداد بالإخلاص والإنصافِ أوصيكم بثلاثة من شأنهاتسهيل سيركم إلى الأهداف
أوصيكـــم بتأدب وتـفكــر***وتعمق في البحث كالأسلافِ
فاليومَ هوَ الذكر الـ 35 من رحيلكَ يا أيها الجد الحنون، شهيد العلم والمعرفةِ، ندعو الله تعالى أن يجدد رحمة عليكَ، ويشبَ على قبركَ شآبيبَ المغرفةِ والرحمة، إنه غفور رحيم، وبالإجابةِ جدير.
الباحث: الحاج مور بوري الجلوفي.
Setu Maam