دكارنيوز ينشر الحلقة الأولى من مذكرات الرئيس السنغالي ماكي صال “السنغال في القلب”، وهي حلقة تغوص في طفولة الرئيس وأصول عائلته، وتعرج على بعض تفاصيل توتر علاقته مع الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد، الذي وصفه ذات تصريح بأنه “سليل طبقة العبيد”. في ما يأتي الحلقة الاولى مع توطئة للكاتب الصحافي الموريتاني عبد الله محمدي، ومقدمة للرئيس صال.
في توطئة الكتاب، يقول عبد الله محمدي (مشرف الطبعة): خطى ماكي صال إلى الواجهة، في غفلة من الجميع، تسلم المسؤولية الكبرى في بلاده صيف 2012، دون أن يتوقع أي من منافسيه هذا الوصول إلى السباق النهائي في مواجهة واحد من أعتى وأذكى السياسيين في أفريقيا، عبد الله واد، الذي اعتاد السنغاليون تسميته “الشيخ” أو “الجد- أب الديموقراطية في السنغال) .
يلخص “صال “خطواته بقدر كبير من التواضع والأناة، حين يقول إنه اختار أن يذهب إلى الشعب في قراه ومداشره، وهو الذي خبر السنغال خلال السنوات العشر التي سبقت ترشحه.
اعتمد “صال ” على سيارات دفع رباعي أميركية الصنع، ليعبر أكثر الطرق وعورة، وصولا إلى القرى الأكثر عزلة، والتي لم يطأها سياسي قبله، دخل الأكواخ والأعرشة، جلس على نفس الحصير مع المزارعين ومربيي الماشية، سمع منهم وسمعوا منه.
بعد سنوات من حكمه، عاد مع نفس الطريق، وقد أصبحت سالكة بسبب برنامج طموح يركز الاهتمام على العالم القروي، ومبني على التواصل المباشر مع الناس.
في لحظات الصفاء يقلب “صال” شعاره الخفي “إبقاء الصلة مع الشعب” و”التواضع للضعفاء”، قيمٌ ظل يتمسك بها ابن “فاتيك”، الواقعة وسط السنغال، حيث يشتغل الناس بالأرض ويرقبون السماء.
لقد جسد تلك النظرة التي غدت سلوكا، حين عاش وما زال في بيته بحي “مرموز”، متخليا عن تقليد السكن في أبهة القصر الرئاسي الذي عاش فيه أسلافه من الرؤساء.
إنه رئيس البلاد، ولكنه مع ذلك يجد بعض الوقت ليكون جزء من تفاصيل حي ” مرموز” البسيطة، في أيام الجمعة يصلي الرئيس في الجامع، سبحته لا تختلف كثيرا عن سُبح المصلين إلى جواره، يحركها بين أصابعه في تأمل وخشوع.
يخرج أحيانا لمشاركة جيرانه تنظيف الحي، وفي عيد الأضحى “العيد الكبير” يقف الرئيس في باحة بيته، ككل أب سنغالي، يذبح أضحيته استحضارا لمعاني التضحية من أجل القيم النبيلة.
من البيت والحي، ينتقل الرئيس يوميا نحو القصر الرئاسي، حيث يقضي سحابة الأسبوع، يستقبل قادة العالم تحت هيبة السلطة في القصر الذي شيد للحاكم الفرنسي قبل 120 سنة خلت، ووضع فيه كل رئيس لمساته الخاصة.
القصر الذي يعطي ظهره للمحيط، حيث تطل من بعيد جزيرة “غوري”، عاش في ليوبولد سيدار سنغور الشاعر، وعبدو جوف الإداري المنظم، وعبد الله واد السياسي الشعبوي.
أخذ “صال” من أسلافه بعض العادات والتجارب، لا شك في ذلك، لكنه تفوق عليهم بكونه الوحيد الذي يعتبر نتاجا سنغاليا خالصا.
في صالون الموسيقى بالقصر، حيث يستقبل “صال” قادة العالم وزواره السنغاليين والأجانب، وحيث المكتبة تحوي عناوين اختارها في رحلاته، أو أهديت له من طرف مؤلفيها، إنه الركن الأثير عنده، ولعله المكان الذي كتب فيه فصول هذا الكتاب الشيق.
يروي “ماكي صال” في مذكراته ” السنغال في القلب” الكثير من ذكريات صعوده السياسي، حتى الإمساك بدفة الحكم في أكثر بلدان أفريقيا جنوب الصحراء استقرارا، السنغال التي لم تعرف طيلة ستين عاما سوى أربعة رؤساء.
قصة ماكي صال هي قصة جيل سنغالي كامل، ينظرُ كثيرا نحو المستقبل، ولا يتجاهل الماضي، جيل تجاوز العقد الإيديولوجية والصراعات الوهمية، وحين اشتد عوده كان جاهزا للسباق نحو التقدم.
جيلٌ أفريقي متوثب، يتطلعُ لصناعة التغيير، ذلك هو المشروع الذي قدمه صال في كتابه، حين تحدث من القلب عن السنغال.
ماكي صال الذي أدرك قيمة التواصل مع الناس، وفهم أن الوصول إلى قصر الرئيس يستوجب المرور بكوخ المزارع، كان وفيا بعد سنوات من الحكم لنفس المنهج، فقرر أن يتواصل مع الناس، أن يكتب عن تجربته، أن يحكيها.. للسنغاليين وللسياسيين الشباب.. للجميع.
مقدمة الرئيس في مذكرات “السنغال في القلب” .
البروفيسور حسن سك / مترجم الكتاب إلى العربية
في نهاية فترتي الرِّئاسيَّة الأولى على رأس السِّنِغال، وفي الوقت الَّذي أستعدُّ فيه لألتمسَ من جديد ثقةَ مواطني بلدي، أجدُني حريصًا على مخاطبتِهم من خلال هذه السُّطور.
إنَّ كلماتي هذه تتموقَع في مُلتقى الطُّرق بين طموحٍ يتعزَّز وقناعة تتجدَّد.
إنَّه لَطموحٌ مِن أجل خدمة السِّنِغال وإفريقيا، وقناعة بإمكانيَّة الوصول،معًا، إلى مستقبل سيحملُ لنا ثمارَ جهود وتضحيات الشَّعب السِّنِغاليِّ وجميع الشُّعوب الأُخرى، من أجل قارَّةٍ إفريقيَّةٍ أصبحَت ذات تأثير بارز في حلبة سباق الأُمم.
إنَّ هذا هو ما أهدف إليه، حينما أخذت القلمَ للكتابة.
جهدٌ صعبٌ، دونَ مراء، ولكنَّه ضروريٌّ. فمنذ أشهر؛ قدَّمتُ إلى الجمهور، في أوَّل مُجلَّد، نصوصي وخطاباتي وكلماتي في مختلف المناسبات. ومِن المعلوم، أنَّه يستحيل استنفاذُ كلِّ ما يمكن قولُه في مثل هذه النُّصوص، وخاصَّةً ما يتعلَّق بالأعمال الَّتي تمَّ إنجازها.
بعض المؤلِّفين،وأشكرهم هنا وأُثمِّن أعمالَهم، قاموا بكتابة محاولاتٍ موفَّقَة حول سيرتي الذَّاتيَّة،للمساهمة في فهمِ مسيرتي وإنجازاتي.
وهؤلاءِ المؤلِّفون هُم: جين فارب سار وعلي فال وهارون وآمدو لي.
إنَّ هؤلاء، رجعوا بطبيعة الحالِ إلى المصادر والأصول لمحاولةِ إدراك وفهمِ رؤيتي ومسيرتي وشخصيَّتي في حدودِ ما تيسَّر لهم.
وعلى إثرِ محاولتهم الغوصَ في أعماق الشَّخص الَّذي بحثوا حول حياته؛ أليس من حقِّ هذا الأخير أن يتساءل: هل وصلَ هؤلاء الغوَّاصون إلى الطَّبقات العميقة الَّتي تندسُّ وتختفي في ثناياها الطَّبيعة الحقيقيَّة لهذا الشَّخص الَّذي يريدون الإلمام بجوانب حياته ونشرها للقُرَّاء؟
ولأنَّ الأمر يتعلَّق به؛ فإن لهذا الشَّخص أن يتساءل: هل وصل هؤلاء إلى طبقة الاهتزازات العميقة الَّتي تُمكِّنُ، وحدَها، مِن فهم طبيعة “موضوع” دراستهم, وكذلك فهم سلوكِه وشخصيَّتِه الدَّاخليَّة؟ وهل توصَّلوا،حقًّا، إلى فهم وتمييزِ ما هو فطريٌّ ومُكتَسَب لدى هذا الشَّخص؟
إنِّي أضع هذه التَّساؤلات، بوصفي مُتخصِّصًا في علوم الجيولوجيا، ولذلك اعتبر ميدانَ عملي هو الأعماق. إنَّ تخصُّصي يعتمد على الملاحظة والتَّحليل، وهو يتطلَّب الغوصَ في أعماق المادَّةِ؛ مع عدمِ الذَّوبان فيها. ومنهجيَّة عمل كهذا؛ تتطلَّب كثيرًا من اللَّباقة والحيطة. مثلًا، يُلقِّبونَني بـ”نيانغال سال” (أبو التَّجهُّم)، ولكنْ لا تجهُّمَ ولا صرامةَ عندي بمعنى القسوة، وإن كان لديَّ نوعٌ من الصَّرامة بمعنى التَّحفُّظ والرَّزانة. وهذا التَّحفُّظ أيضًا مُتولِّد من مسيرتي في الحياة وتاريخي الشَّخصيِّ، كما أنَّه ليس إلَّا تحفظًا في الظَّاهر فقط. وهذا الأمر أيضًا يهمُّني أن أُبيِّنَه للنَّاس في هذا الكتاب.
لا شكَّ أنَّني إنسانٌ مولَع بالنِّضال، وللقُرَّاء أن ينتظروا مِن هذا الكتاب أن يكشفَ لهم هذا الجانب من حياتي؛ لأنَّه سِمَةٌ شخصيَّة موروثة، حملتُها من بعيد.
إنْ لم أكن كاتبًا، بالمعنى المعهود للكلمة، إلا أنه يمكنني أن أؤكد بأنَّ القلمَ ظلَّ رفيقَ حياتي منذ مدَّة طويلة, فمِن بين أدوات الجيولوجيِّ دائمًا، بالإضافة إلى المِطرقة والبوصلة، يوجد السِّجلُّ الميدانيُّ لكتابة المعلومات الَّتي توصَّل إليها، والَّتي تُشكِّل أساسَ معطيات العملِ لديه.
خلالَ النَّهار أيضًا، أو في وقت مُتأخِّر مِن اللَّيل، أحتاج إلى قلمٍ في متناول يدي، وأنا على المكتب أو على منضدةِ الفراش. وذلك لكتابة خاطرةٍ أو توقيع وثيقةٍ أو التَّعليق على حاشية ورقة تتضمَّن عملًا ما قدَّمَه إليَّ أحد مساعدي.
إذًا؛ هناك حضورٌ دائمٌ للقلم في حياتي, لأجل هذا فإنَّ الكتابة تكون أمرًا طبيعيًَّا، وخاصَّةً في عشيَّة الإقبال على خوضِ عِرَاك آخَر؛ سيدخلُ السَّنِغال بعدَه في طَور الإصلاح والتَّغيير،وستكون له مآلاتٌ واسعة.
إنَّ حياتي تتلخَّص في كلمة “نضال”، إني ناضلتُ في مجال الدِّراسة لكي أصبحَ مهندسًا، ثمَّ ناضلتُ مِن أجل الرَّجل السِّياسيِّ الَّذي كنتُ مُعجبًا به، كما ناضلتُ أيضًا ضدَّ الظُّلم الَّذي وقعتُ ضحيَّةً له، وناضلتُ أيضًا لكي أصبحَ أقوى للفوزِ في نضال آخَر باسمِ الجمهوريَّة، وناضلتُ أيضًا ضدَّ الفسادِ وضدَّ الأُمِّيَّة،وضدَّ عدمِ التَّسامح، وضدَّ الفقر. وسأناضل أيضًا من أجلِ شعبي.
إنَّ نظري، في بعض الأحيان، يرتدُّ إلى الماضي مِن أجل استلهام أفضلِ الدُّروس منه، أو يرتاد المستقبل؛ لأنِّي أريده أن يكون أفضلَ بالنِّسبة للجميع. إنَّني لا أتنكَّر لأيِّ شيءٍ في هذا الماضي؛ لأنَّه هو الَّذي بناني.
بعدَ قراءة هذا الكتاب؛ أرجو أن يفهمَ الجميع، وبصفةٍ أفضل،ما يُحرِّكُني ويدفعني نحوَ الأمام.
هذا الكتاب لا أريده أن يكونَ مُجرَّدَ أوراقٍ تُنشَر، أو عرض الأمور الَّتي تسير بشكل جيِّد؛ مع السُّكوت عن القضايا الأُخرى المتعثِّرة. أريد مِن هذا الكتاب أن يُمكِّنَ الرجال والنساء في السِّنِغال، مِن كسرِ الحواجز. وأريد منه أيضًا أن يخاطبَ الأفارقةَ وبقيَّة شعوب العالَم.
إنِّي أريد أن أُبيِّنَ للجميع اعتزازَ إفريقيٍّ ببلدِه وبقارَّتِه، وفرَحه بالانتساب إلى أُمَّةٍ؛ كلُّ شيءٍ ممكنٌ بالنِّسبة لها. إنَّني أُجيب، في بعض الأحيان، المتشائمين بقولي: “لا، إفريقيا ليسَت كما تتصوُّرون”.
إنَّني لا أريد كتابًا في المرافعةِ الدِّفاعيَّة، ولا أوراقًا مكتوبة سلفًا، لإقناع مَن كانوا مُقتنعين بالفعل. إنَّني أُريد أن أكتبَ، بالضَّبط، لأقولَ: مَن أنا؟ ومِن أين أتيتُ؟ وماذا أتمنَّى؟ وماذا أؤمن به؟
تعوَّد النَّاس أن يقولوا: “التَّاريخ سيحكُم”, ولكنَّ التَّاريخ يُكْتَبُ، بصفة يوميَّة.
إنَّني أُقدِّم إليكم، في هذا الكتاب، تاريخي الشَّخصيَّ!, وأرجو أن يُقدِّمَ، بدوره وفي حينِه، مساهمتي لبناء سنغالٍ جديد مُتجذِّر ومُنغرِس، بقوَّة، في القِيَم الجميلة والنَّبيلة الَّتي جعلَت له إشعاعًا فيما وراء حدودِه، كما جعلَت صوتَه مدوِّيًا ومسموعًا في حلبة سباقِ الأُمم!.
هذه الطُّفولةُ التي تبني شخصيَّتَنا..
إنَّني أنحدرُ مِن أُسرة يرجع أصلُها إلى فوتا، وهي منطقةٌ واقعةٌ في شمال السِّنِغال.ولدت بتاريخ 11 ديسمبر 1961 في مدينة فاتيك، التي تقع في منطقة “سين” في قلب بلادِ عرق “سيرير”. والداي سكنَا هذه المدينة بعدَ مغادرتهما أرضِهما الأصليَّة.
إنَّ أُسرتي متواضعةٌ ومُتفانية في الالتزام بالقِيَم الكريمة المتوارَثة لدى جماعتنا العِرقيَّة. وهذه القِيَم هي: الإيمان ببذلِ الجهدِ، والاستقامة، والشَّجاعة، والرَّزانة.
وبما أنَّ منطقتَنا الأصليَّة واقعةٌ في مُلتقى الطُّرُق؛ فإنَّ ذلكَ جعلَ منها مَمرًَّا مَشهودًا للآخَرين، وسببًا للتَّنوُّعِ العِرقيِّ والثَّقافيِّ.
تتابعت على حُكمِ هذه الأرض، خلال العصور، أُسَرٌ حاكمة كثيرة. هذه الأرض كانت هدفًا لأطماع قبائل مُجاورة في الضَّفَّة اليُمنى لنهر السِّنِغال، كما أنَّها ظلَّت مُعرَّضةً، طيلةَ تاريخها، لتهديداتٍ خارجيَّةٍ ومحاولاتِ غزوٍ وسيطرة مُستمرَّة، قامت بها جماعاتٌ غازيةٌ مُتعدِّدة.
وكان مِن نتائج هذه الوضعيَّة؛ أن ساهمَت في بلورة وتقويةِ روح المقاومة, وتحفيز معانٍ سامية للتَّعلُّق بالوطنيَّة والشَّجاعة والبطولة الحربيَّة.
في هذه الأرض المعروفةِ بالكَرَم والثَّقافة والشَّرَف؛ كان أجدادي يُفضِّلونَ الموتَ البطوليَّ على الحياةِ في الذُّلِّ والهوان.
قيم قبيلتي.. أبي وأمي
إنَّ قِيَم قبيلتي هي الشَّجاعة والوفاء بالعهدِ وحُبُّ الوطن والدِّفاع عن الأرض لمصلحة الجميع. وهذه المعاني السَّامية؛ هي أساسُ الوطنيَّة.
إنَّني أنحدرُ، من جهة أبي، من أُسرة “سال” الَّتي يحفظ المدَّاحون الكبار نَسَبَها ويتغنَّون به بكلِّ حماسة. إنَّ هؤلاء المدَّاحين هم مُؤرِّخونا التَّقليديُّون. وهذا التَّاريخ الطَّويل يمتدُّ إلى مملكة “تورو” الَّتي كان مَلِكُها يُسمَّى “لام تورو” (الملك تورو).
أمَّا أُمِّي؛ فيرجع أصلُها إلى قرية “انغيجلون”, وأجدادُها جاؤوا من قرية نيري الواقعة في أرضِ موريتانيا الحاليَّة، شمال “جافان”، داخلَ أراضي “والو” و”بوسييا”. وكان هؤلاء الأجداد يُعرَفون باسمِ “تيمبو”. ويعني هذا الاسم “الرُّعاة بالوراثة والتَّقليد”. واشتُقَّ اسم “تيمبو” من لونِ أغنامِهم (بال تيمبيجي) نظرًا لِلَّون الدَّاكن لفرو أغنامِهم.
والدي آمدو أبدول بوبو سال؛ نزحَ إلى دكَّار ليكونَ فيها عاملًا بسيطًا, أمَّا أُمِّي كمبا آمدو جاولي حسن تيمبو؛ فقد كانت مُدبِّرة بيت، وربَّة أُسرة،وزوجة مثاليَّة.
كانت أيضا تتعاطى تجارةً صغيرةً لتساهمَ في حدود إمكانيَّاتها لتغطية نفقات البيت حتى نهاية كلِّ شهر، الأمرُ الَّذي كان الرَّاتب الشَّهريُّ الزَّهيد لوالدي يَعجز عن القيام به.
أمي بائعة الفستق المجمر.
وهذه المساهمة النَّسويَّة في تغطية نفقات البيت؛ أمرٌ شائع لدى الأُسَر المتواضعة. ومثل بقيَّة النِّسوة البَطَلات؛ فإنَّ أُمِّي كانت تبيع الفُستق المُجَمَّرَ بالمِلح (تِيَافْ). وهو مُنتَجٌ لا يزال كثير من السِّنِغاليِّين يشتهونه.
إنَّ أُمِّي كانت في قمَّة المثاليَّة،تحتضن أبناءَها بحنان مُفرِط واهتمام لا نظيرَ له، وكانت تجعل عزَّةَ النَّفسِ فوقَ كلَّ شيء.
هكذا ربَّتْنَا على الإيمان ببذل الجهد والشُّعور بعزَّة النَّفس والقناعة بما لدينا وعدم مدِّ عيونِنا إلى ما مَتَّع اللهُ به مَن هو أغنى مِنَّا.
أما أبي فقد كان “فلانيا” أو “تكلورا” حسبَ تعبير بعض النَّاس، وهو مِن المنتسبين إلى الحَسَب الرَّفيع لجماعة “سيبي كوليابي” المعروفين بالبطولة والمقاومة الوطنيَّة. وسأتحدَّث عن هذه الجماعة لاحقًا. وكان أبي رجلًا عظيمًا وعطوفًا وشديدَ الاعتزاز بالنَّفس. وكان يُكرِّر لي كثيرًا هذه المقولة من عنده: “يمكن للإنسان أن يخسرَ معركةً في الحياة، ولكن عليه أن يحافظَ على سلاحِه في قبضة يده لتحقيقِ النَّصر في معركة قادمة”.
إنَّ أبي كان مُزارعًا، وهي من الأعمال المتواضعة. وكان قد هاجر، وهو شابٌّ، من منطقتِه الأصليَّة في الشَّمال سنة 1946.
وعلى شاكلةِ غالبيَّة الَّذين يهاجرون إلى المُدن أو أماكن أُخرى؛ فإنَّ أبي مارس أعمالًا ومهنًا في الدَّرجة الدُّنيا.
وكانت الأمورُ صعبةً عليه في البداية، لكنَّه كان رجلًا مُناضلًا.
في سنة 1948، وجد عملًا بمناسبة بناء الإرساليَّة الكاثوليكية في فاتيك، وكذلك بمناسبة بناءِ الطَّريق بين دكَّار وفاتيك. وانتهت به خاتمةُ المطاف أن أصبح موظَّفًا في وزارة الزِّراعة، عمل في مزارع سَامْبَ جَهْ ما بين 1953 و1955.
أمي أيضًا جاءت من فوتا. فهي بنت عمَّةٍ لأبي؛ لأنَّ الزَّواج بين الأقارب كان جاريًا آنذاك.
لديَّ أُختٌ كُبرى اسمها رقيَّة، وثلاثة إخوان، هم: عليٌّ ومحمَّد هادي وعبد العزيز.
وأسماء أبناءِ أبي تُشكِّل دليلًا على تصوُّره وتعلُّقه الشَّديد بالصَّداقة؛ لأنَّهم كلُّهم يحملون أسماءَ أصدقائه الَّذين تعرَّف عليهم في مدينتي فاتيك وفونجونج.
تقديس الروابط الأسرية
إنَّ ما يُميِّز إفريقيا بصفة عامَّة، والسِّنِغال بصفة خاصَّة هو تقديسُ روابط الأسرة.فالأسرة عندنا تُشكِّل محيطًا للتَّضامن, ومَحضنًا لتوريث القِيَم بين الأجيال. وكلُّ هذه القِيَم تنتقل عن طريق التَّراتبيَّة والأقدميَّة في السِّنِّ، وذلك باحترامِ وقبولِ سُلطة مَن هو أكبر منك سِنًّا.
إنَّ الأُسرة هي اللُّحمة والنَّواة الأساسيَّة للمجتمع.
في جوِّ الأسرة تتولَّد الرَّوابط والوشائج الأكثر متانةً في حياتنا، وفي حضنِها أيضًا؛ نتعلَّم بِرّ الوالدين اللَّذين قدَّمَا لنا الغذاء وكلَّ شيء. وعندما يُصبح الوالدان مُتقدِّمَين في السِّنِّ؛ فإنَّ علينا أن نعتني بهما عنايةً كبيرة. وبهذه القِيَم يستمرُّ توارث التَّربية الحكيمة عندنا؛ إذْ لا يمكن تصوُّر إهمال الوالدين في سِنِّ الشَّيخوخة، لأنَّ تركهما لحالهما يعتبر جالبَ لعنةٍ عظيمةٍ للأولاد. فكبار السِّنِّ تتمُّ رعايتهم لدينا في المنازل، ويرعون، هم، الأحفادَ ويُربُّونهم؛ لأنَّ ميزتهم الأولى هي”تجربة الحياة”.
ولا يمكن للإنسان أن ينعمَ بالسَّعادة الحقيقيَّة إلَّا إذا تقاسم أفراحَه وسعادتَه مع أُسرته وجيرانه والمجتمع كلِّه. إنَّ روابط التَّعاون والتَّضامن هذه مُتجذِّرة في إفريقيا.
سنة مولدي مليئة بالأحداث
ولدتُ في نهاية سنةٍ مليئةٍ بالأحداث الخصوصيَّة للسِّنِغال، وهي 1961.ففي 4 أبريل من السَّنة ذاتها ؛ تمَّ تنظيم أوَّل احتفاليَّة لحصول جمهوريَّة السِّنِغال على الاستقلال والتَّمتُّع بالسِّيادة الدُّوليَّة. وحضر هذه الاحتفاليَّة، بجانب الرَّئيس ليوبولد سيدار سنغور وممدو جه، عددٌ من رؤساء الدُّول الإفريقيَّة الَّتي كانت حصلَت حديثا، هي الأُخرى، على استقلالها. وكان مِن بين الحاضرين أيضًا أندري مالرو، الكاتب الفرنسيُّ ووزير الثَّقافة المشهور، ونائبُ الرَّئيس الأمريكي، ليندون جونسون. ونكتفي بذِكر هذه الشَّخصيَّات مِن بين مدعوِّين آخَرين كثيرين.
في هذه السَّنة، أيضًا، قامت فرنسا بقمع الانقلاب العسكريِّ في الجزائر، كما خرجَت فيها دولة جنوب إفريقيا من مجموعةِ دول الكومنولث، مُفضِّلةً هذا الخروجَ على التَّخلِّي عن التَّمييز العنصريِّ. وتمَّ في السَّنة ذاتها أيضًا اغتيالُ زعيم الكونغو باتريس لومومبا. لقد كانت إفريقيا أنذاك في غليانٍ شديد.
وأنا بدوري؛ قرأت كثيرًا عن التَّاريخ، وأعتقد أنَّه لا يمكننا أن نفهمَ عالمَنا الحاليَّ إلَّا عن طريق الاهتمام بالماضي والجذور القريبة والبعيدة.
مِمَّن نَنحدر؟
سؤالٌ مُهِمٌّ. في سنة 1914، قام سيري سوح؛ أحدُ كُتَّابنا الأوائل بالفرنسيَّة، بتأليف كتابٍ تحت عنون: “أخبار فوتا تورو السِّنِغاليَّة”.
وعندما قام بدراسة معاني الألقاب في هذه المنطقة؛ ذكرَ أنَّ لقبَ سال يعني: “الَّذين عُرفوا بالرَّفض والعناد”. أنا أرفضُ الظُّلم وعنيدٌ في سبيل محاربته، بحيث لا أتحاشى استعمال أيَّةِ وسيلة.
أمَّا اسمي؛ فيرجع إلى سميي “مكي غاساما”، الَّذي كان من رموز الحزب الاشتراكي في مدينة فاتيك، ونائبًا برلمانيًّا وعُمدة للمدينة. وكان رجلًا طيِّبًا وعادلًا وجوادًا وأفضلَ صديقٍ لأبي.
بما أنَّني أروي ما يتعلَّق بأسرتي؛ لا يمكنني أن أسكتَ عن كلمات مُقزِّزة جدًّا صدمَت النَّاس جميعًا، تفوَّهَ بها سَلَفي في السُّلطة( عبد الله واد). الكلمات في غاية النَّذالَة.إنَّها لَكلماتٌ؛ لا يقبل ويستسيغ أيُّ إنسان صدورَها مِن شخصٍ كان له حظٌّ وافر وشرفٌ عظيم ومزية جليلة بتقلُّده أعلى منصب في دولة عُرِفَ أهلُها بالرَّزانة وعدم تجاوز حدود اللَّياقة، حتَّى تميَّزوا، على المستوى العالميِّ، بسمعةٍ إيجابيَّة عظيمة جدًّا.
إنَّ السِّياسانيَّة المكيافيليَّة؛ هي الَّتي تسمح مع الأسف بكيلِ الضَّربات الأكثر خساسةً وانحطاطًا للخصم.
فيا لسوءِ الحظِّ لـ”كريم واد” الَّذي استدعته العدالةُ للمثول أمام المحكمةِ سنة 2015، الأمر الَّذي أفقد أباه، عبد الله واد، كلَّ توازن ورزانة.
إنَّ هذا الرَّجل، عبد الله واد، الَّذي كان مُرشدي وقدوتي في مجال السِّياسة، و أثَّر كثيرًا في البلد، لم يتعالَ عن إعلانِ ما يلي: “ماكي سليل طبقةِ العبيد… وقد تمَّ طردُهم من القرية… إنَّ ابني كريم واد، لن يقبل، أبدًا أن يكونَ ماكي سال فوقَه، ولو كُنَّا في ظروفٍ مُختلفة؛ لكانَ بإمكاني أن أبيعَه عبدًا”.
إنَّ هذه الكلمات الخسيسة والمُنحطَّة، يصعب فهمُها من غير السِّنِغاليِّين أو الأفارقة.
إنَّني أكتب هذا الكتابَ، أيضًا، لجمهور خارجَ بلدي، ومن ثمَّ أريد أن أستطردَ لأقولَ: “إنَّ السِّنِغاليِّين يعيشون مُتأرجحين بين مقتضيات الحداثة وثقل التَّقاليد البالية للعصور البائدة. سابقًا، كان العبيد يُشكِّلون الطَّبقة السُّفلى في السُّلَّم الاجتماعيِّ، لأجل هذا؛ فكون الإنسان منحدرًا من طبقة العبيد، يعتبره البعضُ، حتَّى الآن، عيبًا اجتماعيًّا.
شتيمة الرئيس واد الخطيرة جدا
كانت الشَّتيمة خطيرةً جدًّا، وخاصَّةً في فوتا، الَّتي هي منطقة أصل والدي، حيث إنَّ العبيد المعروفين باسمِ (ماتيوبي)، ما زالوا يُعامَلون باحتقار. هذه النَّظرة المتوارَثة، منذ فترة ما قبل الاستعمار، يصعبُ على الأجنبيِّ فهمُها خارج السِّنِغال.
قامَت جريدة لوموند، الخاصَّة بالشُّؤون الإفريقيَّة، في عددها الصادر يوم 20 مارس 2015، بإجراء تحقيقاتٍ حولَ هذا الأمر، وانتهت إلى وصفِ عبد الله واد بأنَّه”أدلى باتِّهامات خطيرة وزائفة”.
إنَّ الَّذين يعرفون تاريخَ فوتا، ويبدو لي أنَّ عبد الله واد لا يمكن إلَّا يكون منهم،على عِلمٍ تامٍّ بأصولي، والحسب الرَّفيع الَّذي أنحدرُ منه.
إنَّ هؤلاء يعرفون أنَّ أصولَ أسرتي ترجع إلى تورو في “انغينار”،وبأنِّي أنحدر من عشيرة من النُّبلاء المعروفين والمشهورين ببطولاتِهم الحربيَّة.
إنَّ هذا هو الأمر الواقع والتَّاريخ الصَّحيح.
هذه الكلمات كانَت مُزلزِلةً بالنِّسبة لسُكَّان قرية “اندولماج فنيبي”،حيث ترجعُ أصولُ أبي،وكذلك قرية انغيجلون الَّتي انحدرَت منها أُمِّي.
كنتُ قد طلبتُ مِن أقاربي وأفراد أُسرتي من أهل فوتا، الَّذين صُدِموا صدمةً قويَّةً بهذه الكلمات المُنتِنَة، أن لا يجيبوا عليها؛ احتقارًا لها.
لا أظنُّ بأنَّ السِّنِغال سيخرج مُنتصرًا من إعادةِ إنكاء هذه الجروح؛ عن طريق نقاشٍ حول الأصول العِرقيَّة أو الاجتماعيَّة للأشخاص.
نحن ورثةُ تاريخٍ يعود لآلاف السِّنين، مع صفحاتِه المُظلمة والمضيئة معًا.
إنَّ هذا الإرث؛ لا يمكن شطبُه، ولكن بلدنا يُيَمِّمُ، الآن، وجهه نحوَ المستقبل ونحوَ الحداثة.
لا شكَّ أنَّ مرحلة الطُّفولة هي الَّتي تصوغ شخصيَّة الإنسان. لقد ولدتُ وترعرعتُ في مدينة فاتيك، بعيدًا عن فوتا أرض نزوحِ والدي.
طفولة سعيدة وإن لم أكن إبن تاجر غني
طفولتي كانت سعيدةً، وإن لم أكن ابنَ تاجرٍ غنيٍّ أو موظَّفٍ عالي الرُّتبة؛ فلم يكن أيُّ شيءٍ ينقصني. وكنتُ أرتدي البذلة المدرسيَّة، مثل جميع التَّلاميذ في ذلك الوقت. ولم يكن يخطرُ في بالِ أحد الذَّهاب إلى المدرسة بركوب السَّيَّارة. ففي كلِّ المقاطعة، كان ابنُ المحافظ هو وحدَه الَّذي كان يتمتَّع بهذه المِيزة. ومِن حُسن حظِّي أنَّني ما كنتُ أحتاج إلى أكثر من ربع ساعة للمشي من بيتِنا إلى المدرسة.
كانت لأبي فلسفتُه الخاصَّة في الحياة. أنا مَدينٌ له، بطبعي المُتمثِّل في القناعة بما أملك. والقناعةُ حكمةٌ في الحياة، تعلَّمتُها في وقتٍ مُبكِّر.
من الأمور الَّتي تساعد الإنسان كثيرًا عندما يكون بالغًا؛ هي أن يكون قد سبقَ أن تعلَّمَ بأنَّ المالَ ليس هو كلَّ شيء في الحياة، وأنَّ القيمة الحقيقيَّة للإنسان لا تكمن في مالِه، وأنَّ المالَ لا يصنعُ الإنسانَ النَّاجح. وبالنِّسبة للبعض؛ فإنَّ المظهر هو كلُّ شيء، والملابس هي الَّتي تجعل الإنسان وَقورًا أو مُحترمًا.
إنَّ القيمة الحقيقيَّة للإنسان ليست في أيٍّ مِن هذه الأشياء. هذه المعاني أدركتُها في وقتٍ مُبكِّر من حياتي.
والداي ينحدران مِن منطقة كانت تُزوِّد فوتا بالجنود البواسل للدِّفاع عن مختلف الممالك في السِّنِغال، وخاصَّةً مملكتي (تكرور)و (تورو), وكذلك مملكة (دينيانكوبي) ابتداءً من 1512. ومن المعلوم أنَّ الدِّفاع عن الوطن ضدَّ الغُزاة، يتطلَّب الشَّجاعة والتَّضحية والبطولة. وهذه الأمور قد لُقِّنْتُها وتربَّيْتُ عليها منذ نعومةِ أظفاري.
في أسرتي، وكذلك في أُسَر سنغاليَّة كثيرة، يتعلم الطِّفل التَّحمُّل والشَّجاعة خلال فترة الختان، الَّتي هي أوَّلُ امتحانٍ جسديٍّ للإنسان. وهكذا يتعلَّم الأولاد، في وقت مُبكِّر، مُختلفَ أنواع الحكمة وأبعادها. ولهذا الغرض؛ كانوا يُعرَّضون لأوضاع نفسيَّة تساعدهم على تحمُّل المتاعب.
إنَّا حافظنَا على هذه القِيَم المبنيَّة على عزَّة النَّفس والشَّجاعة والشَّرف؛ وإن أصبحَ المجتمع، الآن، مادِّيًّا ورأسماليًّا.
أُمِّي، مثل بقيَّة الأُمَّهات، كانت سخيَّةً جدًّا مع أبنائها.كافَحَتْ في الحياة كفاحًا شديدًا من أجلِنا. وكانت قد باعَت أساورها وخلاخلها من الفضَّة لتغطيةِ تكاليف دراستي، وذلك لمَّا نجحتُ في الشَّهادة الإعداديَّة، وتعيَّن عليَّ الذَّهابُ إلى كولك لمواصلةِ الدِّراسة الثَّانويَّة فيها. وباعت أيضًا كثيرًا من حُليِّها لمَّا نجحتُ في امتحانِ الشَّهادة الثَّانويَّة.
أتذكَّر حليها المصنوعَ مِن فضَّة غليظة في شكل أساور وخلاخل. فهمتُ بعد ذلك أنَّ الحلي عند الأمَّهات ليس له قيمة جماليَّة فقط، ولكن له أيضًا قيمة اقتصاديَّة، وأنَّه يُشكِّل نوعا ًمن التَّوفير احتسابًا للأيَّام الصَّعبة. وحلي أُمِّي كان ثقيلًا جدًّا، لذلك لم تكن تحملُه في كلِّ يوم.
كانَت المدرسة مجَّانيَّة، ولكنَّ ظروفَ الحياة كانَت صعبة. ووالداي كانا مُستعدَّينِ للقيام بكلِّ التَّضحيات ليحصلَ ابنُهما على ما لم يحصلا هما عليه. أبي كان يقول لي: “إنَّ قلمَك يجب أن يكون أداةَ عملِك” بما أنَّه كان يعمل في مجال الزِّراعة، هذا ما جعله مُعجبًا بعمل المهندسين الزِّراعيِّين. وكان يراهم عباقرةً، ومن ثمَّ كان يُشجِّعني كي أجتهدَ للوصول إلى أعلى المستويات. وعندما بلغتُ سِتَّ سنوات؛ عُيِّنَ أبي في مدينة فونجونج، وهي مركز لمقاطعة في إقليم فاتيك على الواجهة البحريَّة.
إنَّ مدينة فونجونج من عجائب الطَّبيعة, وجَمالُها قلَّ له نظير؛ مُتمثِّلًا في مظاهرها الطَّبيعيَّة والمانغروف، وعابرتها الَّتي تمخر عُباب النَّهر المهيب؛ كانت تُشكِّل صورةً رومانسية وشعريَّة وملهمة.
وأنا سعيدٌ سعادةً غامرة، بكوني أوَّل مَن قام ببناء جسرٍ للرَّبط بين ضفَّتي نهر سالوم، طولُه 1280 مترا. وهو الآن في طور البناء. لقد قمتُ ببناء هذا الجسر استجابةً لمطالب أبداها لي سُكَّان هذه المنطقة لمَّا أصبحتُ رئيسًا للجمهوريَّة.
تابعتُ الدِّراسة الابتدائيَّة في مدرسة خاصَّة بالبنين, وفي منتصف السَّنة الدِّراسيَّة 1974؛ جرى تعيين والدي، مِن جديد، في مدينة فاتيك، بتدخُّلٍ مِن صديقه مكي غاساما، سميي،ورئيس القطاع الزِّراعيِّ. هذا التَّعيين كان قد أتاح لهُ فرصةَ الحصول على سكنٍ ووظيفة حِرَاسة.
في مدينة فاتيك؛ نجحتُ في امتحان الحصول على شهادةِ الالتحاق بالصَّفِّ الأوَّل الإعداديِّ, ثمَّ بدأت الدِّراسة في إعداديَّة التَّعليم العامِّ (CEG)، في هذه الإعداديَّة، التقيتُ بأحد أخوالي المُسمَّى، أبدول سمبنجاي، الَّذي كان أستاذًا للرِّياضيَّات, كما كان رجلًا يساريًَّا مُولعًا بالسِّياسة. وهكذا بدأ يُقدِّم لي كتابات ثوريَّة، وخاصَّةً حول لينين. وفي سن الخامسة عشرة؛ بدأت أتلقَّى، بالفعل، تربية سياسيَّة.
وبعد الصَّفِّ الثَّالث الإعداديِّ؛ غادرتُ منزلَ والدي، لأوَّل مرَّة، للالتحاق بثانويَّة غستون برجي في كولخ.
كان لأبي صديقٌ في هذه المدينة, له بيت فيها، تمكَّنتُ مِن النُّزول عنده، أنا وزملاء لي آخرون جاؤوا من فاتيك. وقضينا سنوات الدِّراسة بعيدين عن أُسَرِنا. وقبل الصَّفِّ الثَّالث الثَّانويِّ؛ كنتُ قد اكتريت غرفةً لكي أجدَ فسحةً أكبر وحُرِّيَّة أوسَع.
كنتُ في شعبة”س” ( C ) العلميَّة في أغلب موادِّها. وكان يتحتَّم عليَّ العمل بكلِّ اجتهاد للحصولِ على الشَّهادة الثَّانويَّة. والتي حصلت عليها عام 1982.
بعد ذلك التحقتُ، بصفة طبيعيَّة، بجامعة دكَّار. كتبتُ (بصفة طبيعيَّة)، مع العِلم بأنَّ الدِّراسات كان يُمكن أن تتوقَّف؛ لأنَّ أبي، مثل آباء كثيرين، كان بإمكانه أن يدعوني ويقول لي: “تكاليف دراسةِ طالب في الجامعة غالية جدًّا، أنت الابنُ البِكر للأسرة، ومن ثمَّ لا بُدَّ أن تجدَ وسيلةَ عملٍ لكسبِ حياتك”.
كثيرٌ من الآباء تصرَّفوا مع أبنائهم على هذا النَّحوِ. وكان دافعُهم في ذلك هو الحاجة، لا اختيارًا مِن عند أنفسهم. بيد أن أبي لم يكن من هذا الطِّراز من الآباء. فبعدَ حصولي على الشَّهادة الثَّانويَّة؛ شجَّعَني على مواصلة دراساتي الجامعيَّة، على الرَّغم مِن أنَّه تقاعد وأصبحَ يتعيَّن عليَّ القيام بأمرِ الأسرة. أمَّا هو، فَبدل أن يحملَني على ترك الدِّراسة؛ قال لي: “إن كنتَ تريد مواصلةَ دراساتك؛ فلكَ موافقتي التَّامَّة ومباركتي الكاملة”, وهكذا تمكَّنتُ من القيام بدراستي مُطوَّلة حتَّى حصلتُ على شهادةِ مهندسِ تصميم في تخصُّص الجيولوجيا مِن معهد علوم الأرض (IST)، بجامعة دكَّار.
هذا الدَّعم مِن أبي، لا أنساه في حياتي كلِّها, إنَّه أبٌ مثاليٌّ، قامَ بكلِّ ما أمكنَه لمساعدتي على النَّجاح في دراساتي وفي الزَّواج. ووفاءً لبعضِ دَينِه عليَّ، فإنَّ ابني الأكبر يحملُ اسمَه، وكان له من العُمر، أربع سنوات، عندَ وفاة والدي، رحمه الله.
الحمدُ لله على كونه حملَ حفيده،الذي يحمل إسمه، بين ذراعيه.
باختصار إنَّه كان يتمنَّى أن يكون ابنُه مثل أصدقائه الَّذين تبوأوا أعلى المناصب.إنِّي مدينٌ لهذا الأب المثاليِّ إلى الأبد.
العودة إلى آثار الطفولة
في يونيو 2013؛ عدت إلى آثار طفولتي،وزرت المدارس الَّتي تعلَّمتُ فيها في مدينة فاتيك ومدينة فونجونج. وكان تأثُّري كبيرًا لمَّا أدركت أنَّ الطِّفلَ الَّذي كان يدرس في هذه المدارس؛ أصبح رئيسًا للجمهوريَّة، وهو الآن في الثَّاني والخمسين من عُمره، وقد جاء لوضعِ خطاه، كرئيس للجمهوريَّة، على تلك الَّتي كان يخطوها وهو طفلٌ للعبور نحوَ أروقة المدرسة.
في هذا اليوم؛ دارت في خُلدي ألعابي الطُّفوليَّة، وكذلك زملائي ومُعلميَّ الَّذين منهم جوب ديمب، كما تذكَّرتُ أستاذي ممد انجاي المعروف باسم “تِرْغَالْ”, وكذلك دروسي الأولى في الحياة.
في ذلك اليوم؛ ألقيت خطابًا مليئًا بالأحاسيس والشُّجون، كما ترَّسَمت في خيالي صورُ والديَّ. وذلك لمَّا وطئَت قدمي أرضَ مملكة الطُّفولة, وفاضت في نفسي ذكريات الصِّبا.
تُوفِّي والدي بتاريخ 23 سبتمبر 1998، وتُوفِّيَت والدتي بتاريخ 23 سبتمبر 2007. فكانا قد توفيا في الشَّهر نفسِه واليوم عينِه؛ مع فارق تسع سنوات.
كان فقدُهما يُسبِّب لي وحشةً كلَّ يوم، ولكنَّ الأشخاص الَّذين لا يغادرون ذاكرتنا؛ لا يموتون.
في ذلك اليوم أيضًا؛ فكَّرتُ في العمل العظيم الَّذي قام به المعلِّمون، وهو عمل لا يستطيع أحدٌ أن يُقدِّرَ حقَّ القدرِ مدى آثاره القيِّمة،ولا أن يدفعَ له ثمنًا يُكافي جهده.
وبمناسبة زيارة أُخرى، بعد هذه، كتبتُ على حسابي في تويتر ما يلي: “إنَّ الإنسان لَيحسُّ، دائمًا، بسعادة عميقة، كلَّما وطئت قدمُه أرضَ مولده. إنَّني لَأجدُ من جديد، في مدينة فاتيك، بتاريخ 2 فبراير 2018، أجواءَ طفولتي وذكريات أصدقائي وجيراني الودودين وإخواني العطوفين. إنَّه لَسِحرُ التَّلاقي من جديد”.