مقال : إن اللجة لاتعي أغاني الكواكب

0
713

إن الغيمة التي تدفعها الرياحُ مثل القلب الذي تديره الأسواق، فليس لديهما القدرةُ على الاختيار، فالقلب إذا أحب أصبح رهن الأسواق وطوع المشاعر.
ونحن نعلم علما لاتخالطه ذرةُ شك، أن من شنشنة هذه البلاد الخصبة التي أنجبَت (مَوْدَ و بَمْبَ) ألّا تعقم، بل تنجب من أحفادهم كبكبةً يحملون الأمانة ويُنيرون البلاد للعباد…
وما سوّد الأقطارَ إلا رجالُها
وإلاّ فلا فضل لترب على ترب
و وَكَدُ كتابتنا لهذه السطور هو ذكر غيض من فيض مزايا رجل تدعمه السماء، ممّن ورث تلك الأمانة، وله كل الجدارة بأن يتمتع بعناية إنسانية رشيدة، وحقوق قانونية منتصفة، ومكانة إجتماعية مرموقة، فهو مولاي محمد المصطفى سه المكتوم.
وإذا كان السؤال لماذا؟ كان الجواب لأنه هو:

  • الرجل الذي يسلّط العلمَ على جرثومة الجهل حتى لا تفرخ وتتكاثر وتتناسل، فإذا ما فعلت قامت بحرق وهدم أوكارها وأعشاشها و مراتعها التي هي منهلها ومعينها، وقد علّمنا بأَنَّ الْعِلْمَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ لَكِنَّهُ يَكْرَهُ رَائِحَةَ الْجَهْلِ ، وَالْحُبَّ لاَ بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَتَنَفَّسَ لَكِنَّهُ يَكْرَهُ رَائِحَةَ الْبُغْضِ ، وَالْقَلْبَ لاَ بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَتَنَفَّسَ لَكِنَّهُ يَكْرَهُ رَائِحَةَ الْكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ.

-الرجل الذي زاوج العلم بالعمل، فلم يقف في باب ذي مال أو جاه، ولم يتقوّت بدراهيم الأتباع ، وليس له سلطة دولية وتجمع أسري جعلت من الإسلام وسيلة لكسب المعيشة ، فكيف لا!! و هو الذي علّمنا أن( الأجر الممنون هو الذي جمع بين أجر الفضائل وأجر الفرائض، (الجمع بين أجر الفرائض وأجر الفضائل )إذن فالوظائف النفسية مقدمة على الوظائف العملية، وقد روي أن نبي الله داوود كان يخرج متنكرا يطوف في الآفاق يسأل الناس عن سيرة داوود فيهم، فتعرض له جبريل على صورة الآدمي، فسأله عن سيرته، فقال له جبريل: نِعمَ الرجل داود، ونِعمَ السيرة سيرته، غير أنه يأكل من بيت مال المؤمنين، ولا يأكل من كد يده.! فيرجع داود باكيا متضرعا في محرابه، يسأل ربه أن يعلمه صنعةً يأكل منها. “و علمناه صنعة لبوس لكم”).

  • الرجل الذي علّمنا أن العلم والأدب وجهان لعملة واحدة، وأن الحركة لا تسمح بانفصالهما، فإن كان بد منه فغياب العلم أحسن، فكل من علّمَ شخصا ولم يؤدبه فقد صنع فاجرا يلهث ويعبث بعِلمه، وإذا أدّبه ولم يعلمه فقد صنع جبَانا نخبا، يتسكع الطرقات كجيفة هامدة، ويكون بين الناس كميتة تنهشها العقبان، و(أن الأخلاق أشبه شيء بالمغروسات، لا بد لها من عناية يومية، تقوم بها يد عاملة وعامرة، وإذا أنزلنا عليها الماء ماء الهداية والتوجيه اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فتصبح أرض الحرية والإنسانية في ذلك مخضرة ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها * والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا*).وأن ( المعاملة هي المحور التي تدور حوله العلاقات الإنسانية، فهذه الحياة التي تأخذ أبعادا مختلفة وأشكالا متنوعة، فالإنسان وحده هو الحر المتمرد و الثائر في الطبيعة وعلى الكون، وهو وحده يصطدم بالعالم، ويصارعه ، يخلق نفسه في نفسه، ويولد كل يوم ميلادا جديدا *ومن لم يولد مرتين فلن يلج ملكوت السماء*)

-الرجل الذي علّمنا أن السياسة ضرب من الواجبات ، وأن إظهار الموقف نوع من الحماسة والشجاعة ، وأن السكوت أمام لطمات الظلم القاسية قسم من الخوَر والخوف، و(أن القرآن الكريم بسوره وآياته البيّنات جاء بلغة سياسية غير اللغة العادية بالعربية أو غيرها ، وقد تناول السبل بنوع فريد ، فلم يكتف بسورة الملك وآية الملك فحسب، وإنما جاء مثلا بسورة البلد و سورة سبأ و سورة قريش و سورة الشورى وسورة القلم ، ثم جاء بسورة المدثر و المزمل، وقد جاء بآية لخّص فيها تلك العلاقات بين الجماهير، “و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ” وآية أخرى تضع موازين القسط والحفظ بالقسطاس المستقيم، “ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا
(ca ce sont les coalions
أو أشتاتا” (الأحزاب السياسية الأخرى).
فهناك في السياسة أخلاق عادية، وهناك أيضا أخلاق نظامية، وهناك أيضا أخلاق منفعية، ولكل من هذه الأخلاق أوانها ورجالها ومكانها، وحتى الصداقة لا ينبغي وضعها على ميزان الدولة، ذلك أن الصداقة علاقة بين متساويين ومتعادلين في القيم، فإن انتفت المساواة كانت العلاقة شيئا آخر لا يقبل التسامح مع الدولة.  ”).
لقد طاش عقلي وأنكرتُ نفسي لما وقع على سمعي أن هناك من اهتدى بوحي من إبليس ينفخ عليك الدسائس والمكائد فحيح الأفعى، كالمادة من القانون وراء الشرح. فليس هذا بمستغرب، لأن من الطبيعي جدا أن يُسخّر الله لأوليائه من الأعداء من يعمل جاهدا للحيلولة دون نجاح مهمتهم، كما كان يقول مشيل عفلق مؤسس حزب البعث في خطاب ألقاه على مدرج جامعة سورية عام 1942م: (…مشركو قريش ضروريون لتحقيق الإسلام ضرورة المؤمنين له، فالذين حاربوا الرسول، وساهموا في ظَفر الإسلام، كالذين أيدوه ونصروه) . ويظهر جليا أن تلك الهجمات ليست إلا صرير باب أو طنين ذباب لا يضر المحيط في شيء ، وأن كل من أرادك بسوء فلن يخرج منه إلا غاضّا إصبعه، لائما نفسه، أن اللجة لا تعي أغاني الكواكب.
جميل اندوي المسترشد