مقال / الخدمة ..في سوق العولمة

0
339

بقلم البروفيسور محمد غالاي أنجاي -بروكسل

لا يغيب عن بال أحد أن عالمنا، في وضعيته الراهنة، يجتاز مرحلة تاريخية ،تأزمة ومقلقة للغاية، وذلك من أصاعدة شتى نفسية وثقافية وحضارية، … حيث لم يعنّ للسواد الأعظم من قاطنيه بصيص من الأمل لمستقبل أفضل. في الواقع، إن السيناريو الفظيع الذي نشهده يكمن في موجات من الحيرة والقلق والاكتئاب التي تهجم بشراسة أدمغة شريحة رحيبة من الناس، وتسيطر على شرايين أفئدتهم، وتقض مضجعهم ليل نهار. والسبب في كل ذلك يعود أساسا إلى حالة الإنسانية التي تمر بمنعطف تاريخي عصيب تموج في خضمه تيارات فكرية منحرفة في أغلبها، وأيدولوجيات مادية إلحادية سافرة ومنحطة، … تحمل في طياتها عواصف مكثفة من الدعايات البراقة تبغي غرس بذور الإباحية والشذوذية، والكراهية والإقصاء، ومزيد من الهيمنة والسيطرة على العباد والبلاد. والأدهى والأمر هو أننا نلحظ أن تلك الدعايات تترسخ وتتفاقم كل يوم شرورها أكثر من ذي قبل. ولا ريب في أن انسحاب الفكر الإسلامي – بكل ما يحمله من قيم سامية وعالمية – من الساحة قد تمخض عنه وجود خواء ثَــقَا-أخلاقي (أي ثقافي وأخلاقي)، بل قد أحدث شروخا كبيرة في البنى الاجتماعية العالمية، وهو انسحاب يرجع أساسا إلى أسباب عدة سياسية واقتصادية، … لا مجال لذكر تفاصيلها هنا، وهي على كل حال لم تعد سرا مخبوءً لأحد.
وبما أن السُّنن التاريخية قد عودتنا “أن الطبيعة تخشى الفراغ”، فبعد أن ضحلت جملة وافرة من حصيلة إسهامات ذوي الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية من الطرف الإسلامي، وقصرت في الوقت نفسه في تقديم علاج مناسب يكون على المستوى المأمول، فكأنما نشطت من عقال، فسعت تلك العواصف الشريرة جاهدة وبكل ما لديها من نفوذ وإمكانات في ملء الساحة العريضة. وبوعيها التام للتاريخ وتقلباته المفاجئة والسريعة رفضت أن يكون لها شريك في هذه الساحة!
أمام هذه الحالة المحزنة الدرامية لواقعنا المعيش، ارتأينا ضرورة العودة إلى التراث، التراث الإسلامي، وبخاصة التراث الخديمي (نسبة إلى الشيخ أحمد بمبا الملقب بـ “خادم الرسول”)، بهدف محاولة تفعيل بعض عناصره الصالحة للاستثمار، لما بقي فيه أي في هذا التراث – على ما نعتقد – من روح حية وقلب نابض. ومستند قناعتنا في العودة إلى التراث، يكمن في إيماننا الراسخ أن العالم الذي نعيش في أحضانه ليس ملكا لشعب فلان، ولا لفئة علان، بل كلنا شركاء فيه، ولكل منا – فردا وجماعة وشعوبا – مسؤولية قائمة ومؤكدة إزاءه.
 ومن هذا المنطلق ندرك أن محاولة توظيف الخدمة في هذه الآونة بالذات من مسيرتنا الحضارية ليست أمرا اعتباطيا وعفويا، لا شك أن وراءها طموحات أخلاقية قيمية نبيلة نود بكل قلوبنا تحقيقها حتى تسري فاعليتها وتعم فائدتها العالم برمته. إذن فالهاجس الرئيس لدينا هو نشر القيم والفضيلة في عالم تتعارك فيه قوى مضادة، الخير والشر، الحق والباطل.
لكي نكون منهجيين في معالجة موضوعنا آثرنا أن نبدأها بطرح سؤال يبدو لنا وجيها: هل مفهوم “الخدمة” يمكن أن يتسع لكل القيم المضافة إلى قيمة “الإنسانية” (humanisme) بغض النظر عن تمظهرات وتجلياتها المذهبية والأيدلوجية، لمواجهة ليس فحسب التحديات الآنية بما فيها القضايا المجتمعية البشرية التي قد يكون لها طابع الخصوصية والمحلية، وإنما أيضا الأزمات المستقبلية؟ لا ريب أن الجواب سيكون بالنفي، إذا نحن اكتفينا فقط بمعناه الضيق المتعارف عليه عند الصوفية، وهو معنى لا يعدو أن يكون مجرد حركات أو أعمال ذات قيمة معنوية (أخلاقية) تجاه الشيخ المربي أو تجاه المريدين بعضهم لبعض. أما إذا شَحَنَّا مفهوم الخدمة بالمضمون الشامل الذي أعطاه إياه الشيخ أحمد بمبا مؤسس الحركة التجديدية المريدية[2] بالسنغال – (واستندنا كذلك إلى التعريفات التي أفرزتها المدرسة الفكرية المريدية[3]) –، فإنه بذلك سيرتفع إلى مصافي المفاهيم الصوفية والفلسفية التي تجعله قادرا على أداء الوظيفة التي نريد أن يؤديها في واقعنا المعيش، وهي وظيفة تسمح أساسا باستئصال أو تقليص أو تهميش الفكر المادي الذي يهيمن على أدمغة الكثيرين، فيحوّل الإنسان من حالته الوحشية، إلى حالة “الخَادِمِيَّةٍ” أو “الخَدِيمِيَّةٍ”[4]، فلا يكون عندئذ “ذئبا على أخيه الإنسان[5]” كما قال توماس هُوبْز، ولا يحسب أن “جهنم هي الآخرون[6]” كما نصَّ الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، ولا يكون أيضا إنسانا مخاذلا يفر من هموم شعبه ومعاناته كما نجد عند بعض الدراويش من المتصوفة كالملامتية ومن لفَّ لفَّهم، بل سيكون “خادمًا” أو “خديما” لأخيه ولمجتمعه، وجَنَّةَ نَعيمٍ للآخرين، أو كما يقول المثل السنغالي الوُولَفِي[7]: “الإنسان دواء للإنسان”، كذلك كونه خديما أو خادما يُحوِّله من كونه مواطنا صرفا له حقوق وواجبات إلى خليفة الله تعالى في أرضه. فالخدمة، من هذا المنظور، تسخير الإنسان نفسه في نفع الآخر، وإصلاح الكون بحيث تكون الأخلاق الدافعَ والمحركَ الأساسي، والحبُّ كقيمة أخلاقية عليا يحتلُّ مكان الصدارة في تلك العملية التسخيرية النفعية. وبهذا الصدد ينص الشيخ الخديم: 

كونُوا مُحبِّــــــــــــــــــــــــــين الخُـيُـــــــــــــــــــــــــــور لِجَـــمِيــــــع *
خَــــــلـــــقِ إلـــهـــنــا الـمُــــقــــــــــــــــــــــــــــدَّم البـــــــــــــــديــــــــع
يَا مَالِــــكَ المُـلْـــــك يَا مَــنْ جـــــلَّ عَـــنْ قـــوَدٍ**
ارْحَـــــــــمْ جَـمِيعَ الــــوَرَى يَـــــــا هَـــادِيًـــــا رَدَءَا *
دعـــتـــــني إلى الخَــــطِّ الـنَّــصيحةُ للـــــــورى*
لِــــوجهِ الَّـــذي لِي قــــــــــادَ أجْــــــــرًا وأسعفا

       وقوله:    
«واجعــلـني الدَّهر بِـــشْـرَ الحُمرِ والسُّودِ *
                      «وانفع بِـيَ الورى يا مُـغـنيا عن مدفــع
ذلك لأن الخدمة تنبني على فكرة مفادها أن الكون هو البيت الذي اختاره الله تعالى للبشرية لا لِتَعِيشَ فيه فحسب، وإنما أيضا لِتُحافِظَ عليه وتعتني به، ولكي تستقيم الحياة فيه فلا مناص من أن تكون المنافع متبادلة بين سكانه بحيث يحتاج كل واحد إلى الآخر أيًّا كان، أحمر أو أسود، رئيسا أو مرؤوسا، قويا أو ضعيفا، صحيحا أو سقيما، غنيا أو فقيرا، وهلم جرا، مصداقا لقوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [13]﴾. ويبدو لي أيضا أن هذا المعنى المبسوط هنا هو ما أراد الشاعر أبو العلاء المعري التلميح إليه في البيت التالي:
النَّاس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ
بعض لبعضٍ وإنْ لم يَشعُروا خَدَم

إن تسخير الله تعالى للإنسان الكون ليس معناه أنه سيّد له بالمعنى الاستعلائي الديكارتي القائل: «إن الإنسان يجب أن يكون سيدا ومهيمنا على الطبيعة»، لا وألف لا، بل هو سيد الكون وفق المثل الذي يقول: “سيد القوم خادمهم”. فهو بمعنى خدمة الكون وسُكانه. فمهمة التسخير تعني إمداد الإنسان بالمعرفة وأدواتها مصداقا لقوله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [14]﴾. وهذا ليكون هذا الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه مصلحا لا مفسدا فيها. ومن هذا المنطلق نفهم أن “الخدمة التسخيرية” هي التي تمكن من العيش في الكون وفق المنهج الإلهي الذي رسمه للبشرية. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ[15]﴾.
ولكي نُقرِّب الفكرة إليكم أكثر نقول: الإنسان في مهمة تسخير الكون كمثل ذلك الخبَّاز الذي يتعامل مع العجين الذي بين يديه ليصنع منه شيئا مفيدا ومتقنا صالحا للاستهلاك دون أن يجلب ضررًا، مثل الخبز والكعكة، الخ. هذا، وإن كان العجين تحت تصرفه وسيطرته فهو يتعامل معه بذهنية الخادم، أي المصلح، لا كالجبَّار المتسلط، مستهدفا خدمة نفسه و/أو الآخرين. وهذا يعني أن وراء معالجة الخبَّاز للعجين وقيامه بترقيقه مسؤولية مؤكدة وهدفا نبيلا يريد أن يحققه، وليست هيمنة جبروتية أو مجرد خبطة عشواء، فهو يريد مثلا أن يصنع شيئا مفيدا ومتقنا قابلا للاستهلال دون إفراط ولا تفريط في العجين. إذن، الخباز حين يتعامل مع العجين ليس في حسبانه أنه يقوم بعمل عشوائي أو لاأخلاقي بحيث يحلو له أن يتصرف كيف يشاء وأنَّى شاء، بل له هدف قِيمِي معيّن يريد أن ينجزه على أحسن حال، وهذا الهدف هو ما يمكن أن أطلق عليه “العمل المفيد المتقن”. وليس من شك في أن وراء كل عمل مقصود ومفيد ومتقن مسؤوليةً سواء علمناها أو جهلناها.      
وفي ضوء كل ما سبق، ندرك أن الخدمة هي وقود التاريخ وديناميته الأساسية كما رأينا في الآية السابقة من سورة الزخرف وعند أبي العلاء المعري، وبها يَصلُح العالم، وبها يحقق الإنسان رسالته المنوطة به في الأرض (الخلافة)، وعند فقدانها تتعطل الحياة ويَفقِد الإنسان إنسانيته، وبالتالي ينهار إلى الحضيض. ويمكن أن نتلمس هذا المعنى السامي للخدمة مع الدكتور علي شريعتي، ولكن في هذه المرة مع مفهوم “الإصلاح” بدلا من مفهوم “الخدمة”، وإنه وإن كان يختلف مع الشيخ الخديم في العبارة فإنهما يلتقيان في المعنى. وإليكم ما نص عليه: «قمت ببحث في أحد دروسي عن الفصل بين مفهومي: “الخدمة ومفهوم “الإصلاح”» وبالتالي بين “خادم البشرية” وبين “المصلح” وهما يستعملان عادة في مجال واحد في حين أنهما مختلفان، وفي ظل ظروف معينة متناقضان، أي أن هناك خدمة لا تقدم إصلاحا، ليس هذا فحسب بل تفسد وتخون. إن الإفراج عن سجين خدمة بالنسبة له لكنها من الممكن أن تؤدي إلى الخيانة ليس بالنسبة للآخرين فحسب بل بالنسبة له أيضا، ورئيس مدينة جيد تعد دائرة عمله محدودة بالخدمة، وباستور خادم فقط وكذلك إديسون وكوخ وبقية العلماء والمخترعين والمكتشفين. لكن هناك فرقا بين عمل بوذا وعمل أرسطو، وعمل علي [بن أبي طالب] وأبي علي بن سينا، وعمل المسيح مع عمل بطليموس، وعمل روبسبير مع عمل لافوازيه، وعمل [فرنسيس] بيكون مع عمل [إسحاق] نيوتن، وعمل كاتب مع عمل طبيب، وعمل فيلسوف مع عمل مهندس، وفي علاقتك الفردية تقوم أحيانا عن طريق جهدك الفكري بتغيير ما في أسلوب تفكير أحد أو في طريقة حياته بحيث تحافظ عليه من الانحراف وتصونه من السقوط وتهديه إلى النضج والاستقامة، وأحيانا تؤدي عنه دينه أو تُهدي إليه سيارة أو تحل إحدى مشكلات حياته بإنفاق الوقت أو المال أو الجهد، وهذان الأمران مختلفان، ومن هنا نصل إلى قاعدة بالرغم من أنها بسيطة إلا أنها مهمة جدا وحيوية، وغالبا ما نغفل عنها وهي: “أن كل مصلح خادم لكن ليس كل خادم مصلحا”[16]». ويضيف شريعتي قائلا: «وهذا التقسيم يصدق في ميدان العلوم تماما، بل إن أعظم مصداق له هو العلوم، فالعلوم الخادمة هي التي تتناول الإنسان كما هو موجود، أما العلوم المصلحة فتتناول الإنسان كما ينبغي أن يكون، الأولى تتعامل مع واقع الإنسان والثانية تتعامل مع حقيقته، الأولى تفكر في الإنسان وقوته وسعادته وراحته والثانية تفكر في تساميه وتطوره وعظمته وحركته، الأولى تحت إمرة الإنسان مرشدة له. عمل الأولى الخدمة وعمل الثانية النبوة، وفي هذا الموضع يكمن الخلاف بين رسالة الأنبياء ودور العلماء في تاريخ الأمم. وهذا الخلاف نراه الآن بشكل آخر بين المفكرين: فالقادة الفكريون وبناة الحركات التحررية المضادة للاستعمار والمطالبة بالاستقلال والمضادة للطبقية شيء، وعلماء الفلسفة والعلماء والأدباء والمتخصصون والمكتشفون والمخترعون شيء آخر. وفي العصر الحديث يعتبر ما قام به سيد جمال الدين وميرزا حسن الشيرازي وغاندي من النوع الأول، وخدمات فون براون مصمم السفينة أبولو من النوع الثاني .           
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن الدكتور علي شريعتي محقّ في تفريقه العميق بين مفهوم “الخدمة” ومفهوم “الإصلاح” إلا أنه وإن كان يرى أن الإصلاح أنبلُ وأخصُّ من الخدمة – ولا مشاحة في الاصطلاح – فإن المعنى الذي أوَّل به عمل السيد المسيح عليه السلام، وعلي بن أبي طالب، وبوذا، وغاندي، وجمال الدين الأفغاني، وميرزا حسن الشيرازي، هو نفس المعنى الذي تُحققه الخدمة في تجربة مؤسس المريدية الشيخ أحمد بمبا، أي المهمة التي من أجلها بعث الله الأنبياء والرسل. فهذا المعنى الراقي لمفهوم الخدمة عند الشيخ الخديم هو ما جعله مترادفا ومتكافئا لمفهوم الإصلاح، وهذا المعنى نفسه هو ما أكد عليه الشيخ بخصوص تجربته في ممارسة الخدمة، هكذا قال:

واجعل كـــــــــــتابـتــي ككل مُــرسَــــــــــل
يا من وهبتَ لــي أجور الرُّسُـــل
فيما جرى بيني وبين مـــن كــــــفر
قبلُ وكـــنتَ لـــــي بمخجل النَّـفر
جــــــــــــــــــهادي انقضى وربِّي قَبِلَهْ
وَهْوَ كَسَعْيِ كُـــــــلِّ هَادٍ أَرْسَلَه

             وهنا أيضا يمكن للقارئ أن يتلمس السبب الداعي إلى دعوتنا إلى توظيف “الخدمة”، ليس إلا نداء مخلصا وإحساسا مرهفا بالمسؤولية وصرخة ضمير متألم يتلهف إلى إصلاح العالم بتجريده من كل هذه التيارات والأفكار الهدامة والسلوكيات المنحرفة التي لا تفتأ ترمي بحبالها على كر الجديدين لتصيد بها هذا الجيل والأجيال القادمة. وهي دعوة كذلك إلى التنصل من هذه المحاولات المكثفة الصادرة عن جملة من “المثقفين” و”المفكرين” الذين لوثوا الفضاء الثقافي بطرحهم أسئلة غير حقيقية وغير واقعية من مناحٍ عدة، ثم يُجهدون أنفسهم بمحاولة الإجابة عنها من خلال طروحات فكرية مزركشة بشعارات براقة ومموّهة في غالبها بحيث يمكن وصف كلها أو جلها بأنها مسلّية وأقرب إلى الترف الفكري من الواقعية والجدّية. في تقديرنا، الأسئلة الجادة والحقيقية في هذا المنعطف الحضاري المتأزم الذي تمر به الإنسانية تنصب في مجالات القيم والأخلاق أو ما يمكن أن نُسمِّيه بـ “الثقافة القيمية”. وغير خاف أن الشروخات والمفاسد التي ترزح من وطأتها المجتمعات البشرية في كل أزمنتها وأمكنتها يتحتم التفتيش عن أسبابها في قلاع القيم ومتارسها المتينة ومدى وقعها وتأثيرها فيها. فالخدمة – كما أراد مبدعها، أو من خلال استنطاقنا لكتاباته – تطرح أولا وقبل كل شيء قضية: كيف يمكن إعادة محورية الإنسان في الكون من حيث هو إنسان وخليفة الله، لا من حيث أنه عنصر ينتمي إلى الطبيعة من حيثية المادة واللاشعور الأخلاقي.      

[1] ) – “الخدمة” مصطلح إسلامي عام، ومُريدي على وجه الخصوص، أبدعته المدرسة الفكرية المريدية، واشتهر كموضوع للدراسة عند هذه المدرسة بـ “نظرية الخدمة”، وهي نظرية بدأت منذ عقود من الزمن تُرسِّخ قدمها وترتسم معالمها في الوسط النخبوي المريدي، صاغها مؤسس المريدية الشيخ أحمد بمبا – رضي الله عنه – في دنيا الواقع، كما قام أيضا بتطبيقها في أسمى وأبهى صورها. وغني عن البيان أنَّ معالم تجليات هذه النظرية نجدها ناصعة في معظم كتاباته، تقريبا لا يمكن للشخص أن يعثر على مؤلف من مؤلفاته – سواء أكانت نثرية أو نظمية – إلا ومفردات هذه النظرية حاضرة فيه وبشكل ملفت للنظر. كما أن العديد من العناوين التي وضعها لبعض مؤلفاته لا تخلو من لفظة “الخدمة”، منها على سبل المثال لا الحصر: «بداية الخدمة في الصلاة على النبي الرحمة»، «مقدمة الخدمة في الصَّلاة على نبي الرحمة»، «المقدمة الصُّغرى النَّظمية في خدمة خير البرية»، «فتح الفتاح في خدمة المفتاح»، «نور الدارين في خدمة الحامي عن العارين»، «مسالك الجنان في خدمة المطهر الجَنان»، «إصلاح الدارين في خدمة الحامي عن العارين»، إلخ.

[2] ) – المريدية طريقة صوفية أو حركة روحية تجديدية اشتهرت بمناهضتها للاستعمار الفرنسي، أسسها الشيخ أحمد بمبا (ت. 1927م) في السنغال عام 1883م.

[3]) – أما تعريفات “الخدمة” في حقل الدراسات المريدية فهي من الكثرة بمكان، وما يمكن لحاظه هو أن كل واحد من الباحثين الذين تعرضوا لها نظر إليها من زاوية المقاربة التي تبناها أو من زاوية تخصصه. فقد عرفت الخدمة بما يلي: «الخدمة: مجموعة من المبادئ النظرية والعملية التي قولب بها الشيخ أحمد بمبا أفكاره تجاه الإنسان والكون وعالم الميتافيزيقا». أما الأستاذ صالح سلام، علاوة على كون الخدمة “منهجا في السلوك والعبادة” عند الشيح أحمد بمبا، فقد استطرد موضحا أن الشيخ الخديم «مارس الخدمة بوصفها أرقى وأعم أشكال التوسل التي يُتوصَّل بها إلى الله ورسوله، وإلى ما كان ينويه من أنواع الخير والسعادة للبشرية، بل لجميع الورى». راجع كتابه: «من أجل إعادة قراءة المريدية». ويرى الدكتور خادم سيلا أن الخدمة في مشروع الشيح أحمد بمبا “منهج للتّجديد والإصلاح”، وقد قرأ الخدمة على ضوء المصطلحين التجديد والإصلاح. أما الفيلسوف الككي مصطفى جوب فيرى أن الخدمة «ما نصّ عليه الشيخ الخديم -رضي الله عنه- أو طبّقه ؛ أو ربّى على هداه أهل تربيته». وعرفها أيضا بأنها: «كُلُّ حَرَكَةٍ فَاعِلَةٍ، ذَاتُ قِيمَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، قَصْدِيَّةُ الطَّبِيعَةِ، تُؤَدَّى فِي الْخِطَابِ الْإِنْسَانِي، تِجَاهَ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ، شُكْرًا لِلَّهِ فِي أَرْيَحِيَّةِ الْعُبُودَةِ الْحَقَّةِ» من كتابه: «العمدة في نظرية الخدمة، الآليات والمحاور». كما عرفها أيضا الباحث شعيب كيبي بقوله: «كل جهد يبذله الإنسان سواء كان ذهنيا أو بدنيا لتحقيق أي مصلحة ومنفعة أو زيادة منفعة شرعية موجودة». ويقول أيضا: «كل التزام شخصي أو مبادرة فردية لأداء عمل صالح نافع يجلب المنفعة للفرد أو الجماعة لوجه الله تعالى وابتغاء لمرضاته». راجع مقاله تحت عنوان: «الخدمة في تعاليم الشيخ الخديم».

[4] ) – ويبدو أن هذا المعنى هو ما أراد الشاعر أبو العلاء المعري الإشارة إليه في هذا البيت:
الناس للناس من بدو وحاضرة     بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

[5] ) – « L’homme est un loup pour l’homme », Thomas Hobbes.

[6] ) – « L’enfer, c’est les autres », Jean-Paul Sartre.

[7] ) – “الوُولفية” هي اللغة الأكثر تداولا في السنغال، و”الوُولف” اسم لأكبر قبيلة فيها.    

[8] ) – امباكي، الشيخ أحمد بمبا، من قصيدة مشهورة بـمطلعها:

وصيتكم يا من تعلقوا بيا
في السر والجهر لوجه ربيا

راجع: «المجموعة الصغيرة المشتملة على بعض أجوبة الشيخ الخديم»، مـجموعة جـمعها واستكتبها الشيخ عبد الأحد امباكي الخليفة الثالث للشيخ الخديـم، مخطوطة، صص. 17-18.

[9] )- امباكي، الشيخ أحمد بمبا، من قصيدة مطرزة بـحروف “رحمان رحيم”. مخطوطة.

[10] )- امباكي، الشيخ أحمد بمبا، قصيدته المطرزة بحروف «صفر مدح سيدنا»، من: «ديوان الأمداح النبوية»، د. ن، د. م، طبعة عام 1998م، ص. 104. انظر أيضا: مـجموعة القصائد الـمسماة بـــ «صفرية»، مخطوطة. 

[11]) – امباكي، الشيخ أحمد بمبا، من قصيدة مطرزة بــقوله تعالى: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ [سورة القصص، الآية: ٨٥.]، مخطوطة. ويمكن لنا تفسير قوله الحمر والسود بالإنس والجن مصداقا لقول مخدومه صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت إلى الأحمر والأسود». فقد فسره حبر الأمة عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – بقوله: “أي إلى الإنس والجن”. انظر تفسير ابن كثير. 

[12] ) – امباكي، الشيخ أحمد بمبا، من قصيدة مشهورة تـحت عنوان: ﴿وَكَانَ حَقًّا﴾ [الروم : 47]، مخطوطة.

[13]) – [الزخرف: 32].

[14]) – [سورة البقرة، آية: 31].

[15]) – [سورة البقرة، آية: 30].

[16] )- انظر كتابه: « العودة إلى الذات»، ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإلام العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413هـ/1993م، صص. 148-149.

[17] )- المرجع السابق، ص. 149.

[18])- يقصد بالجهاد هنا الخدمة.

[19])- امباكي، الشيخ أحمد بمبا، ديوان “القرآنية، ” من قصيدة مطرزة بــالآيات التالية: “وإنه لكتاب عزيز، لهم مغفرة ورزق كريم، وأدخل الجنة فقد فاز، فلله الآخرة والأولى”.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici