إبراهيم حسن جوف ( إبراجوف )
خريج كليّة الدّراسات الإسلاميّة والعربيّة
جامعة الأزهر الشّريف ( مصر) .
تمهيديّ ماجستير، كلية العلوم الإسلاميّة / شعبة الفقه المقارن
جامعة الأزهر الشّريف
بادئ ذي بدء ينبغي التّنويه على أنّ المراد بالدّين في العنوان ، كما هو المتبادر إلى الذّهن ، إنّما هو الدّين الإسلاميّ .
وبجانب المنهجيّة العلميّة ، فإنّ طبيعة هذا الموضوع نفسها تقودني إلى إطلالة خاطفة على تاريخ دخول الإسلام في البلاد السنغاليّة ، تلك القضيّة التي ما زالت في مركز اهتمام الباحثين السنغاليّين على اختلاف طبقاتهم و تشعّب اختصاصاتهم .
ومن المعلوم أنّ دخول الإسلام في السّنغال يظلّ محلّ نقاش شرس بين الأوساط المثقّفة ، بين من يقول بدخول الإسلام في السنغال يوم دخوله في أرض البربر خلال الفتح الإسلاميّ في المغرب العربيّ بقيادة عقبة بن نافع الفهريّ( تـ 63ه / 683م ) حوالي سنة 50للهجرة . وبين من يعود بدخول الإسلام فيها إلى القرن الثاني الهجري / الثّامن الميلاديّ ، وبهذا يقول البروفسور إبا دير تيام (تـ 2020 م/ 1441 هـ ) ويرجّحه الدكتور أحمد محمد لوح . وبين من يربطه بمجيء المرابطين في القرن الخامس الهجريّ /الحادي عشر الميلاديّ .
و القول الأوّل هو الرّاجح عندنا ، بدليل كثافة الإشعاعات الإنسانيّة والثقافيّة بين أهل الشّمال والجنوب منذ قديم الزمان عبرطرق القوافل التّجاريّة . كما “أنّ بلاد ( فوتا طورو) الواقع في غرب إفريقية على شاطئ نهر (السنغال) متاخمة وملامسة للصحراء وسكانها ، فكل ما وصل إلى هذه .. يصل إلى تلك مزامنة بالبديهة ” .
فالقول بالدخول في غير ذلك الوقت فيه ضمنيّا محاولة إثبات أن تكون هذه العلاقات بين الطّرفين محدودة آنذاك . والقول الأخير لا يرقى إلى درجة القبول عند الباحثين المعتدّ بكلامهم ، ويكفي لدحض هذه الأطروحة الواهية أنّ المرابطين لم يأتوا إلا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي ، أي بعد انتشار الإسلام ، بشكل أو بآخر ، في جنوب الصّحراء بما يزيد عن ثلاثة قرون ونصف .
ويُشكِل عليه أيضا ما يذكره البكري (تـ487هـ /1095م) من أنّ الملك وارجابي بن رابيس (تـ 432 هـ / 1041م) هو الذي أقام في هذه البلاد شرائع الإسلام بعد إسلامه . بل إنّ وار جابي وغيره من الأفارقة وقفوا إلى جانب المرابطين ، وأسهموا في نشر الإسلام في أفريقيا ، فلم يسلموا بمجيئهم بل قبلهم .
هذا ، والخطاب الدينيّ في السنغال ليس في أزمة ولا في حالة يرثى لها ، بالقياس عليه في بعض الدّول الأفريقيّة أو غيرها ، حيث الأقلّيّة المسلمة ، وممّا يدلّ على الثّقل الإسلاميّ في البلاد السّنغاليّة تلك النّبسة المئويّة للمسلمين ، ويضاف إلى ذلك جهود الطّرق الصّوفيّة والدعاة وحملات التّوعيّة ، فالنّزعة الدينيّة متمكّنة من المواطنين على نحو ملحوظ ، مع العلم بسوء التّطبيق أحيانًا نتيجة الجهل أو عدم الاهتمام بالتّعلّم الدّينيّ الاهتمام اللازم . وغلبة الفكر الصّوفيّ أدّت بالحاكم الفرنسيّ بول ما رتي Paul Marty إلى إطلاق تصريح حاسم يذكر فيه أنّ الإنسان السنغاليّ لا يعرف الإسلام إلاّ أنّه هو الانتماء للطريقة أو الانسياق وراء رجل الدّين .
وتضاف إلى اجتماعهم على التصوّف ، وحدة المذهب الفقهيّ ( المالكيّ ) ، ووحدة المذهب العقديّ ( العقيدة الأشعريّة ) ، وهذه صورة من صور التّأثير المغربيّ ؛ فالمغاربة يشاطرون هذا البلد نفس المشارب ؛ وعليها بنى ابن عاشر (تـ 1040هـ / 1630م) متنه المشهور ، وهو المرشد المعين ؛ حيث يقول في تقديم موضوعاته :
فِي عَقْدِ الْأَشْعَرِي وَفِقْهِ مَالِكِ ** وَفِي طَرِيقَةِ الْجُنَيْدِ السَّالِكِ
إلاّ أنّ الخطاب الدّينيّ في السّنغال يواجه العديد من التّحدّيات يقهرها أحيانًا ، ويسقط تحت براثنها أحيانًا أخرى . ويمكن تقسيم هذه التحدّيات إلى تحدّيات داخليّة ، وتحدّيات خارجيّة وافدة .
▪️ومن أهمّ التحدّيات الدّاخليّة :
محدوديّة الوعي الإسلاميّ :
إنّ الأغلبيّة السّاحقة من المواطنين السنّغاليّين لا يتمتّعون بخلفيّة دينيّة مناسبة ، فلا يفهمون صحيح الإسلام ؛ مما يجعل رسالة الداعية لا تصغي لها أذن واعية ، كما لا يعمل بعضهم بمقتضاه . وهناك مشكلة عويصة تعترض عمل حامل الخطاب الدّينيّ في السنغال تتولّد من سوء فهمهم للدين الإسلاميّ ؛ وهي اعتقاد النّاس بأنّ الإسلام إنّما هو دين تبشير، فإذا بشّر الداعية بذكر الجنّة ونعيمها قابلوه بالتّصفيق والتّشجيع . وإذا أنذر بذكر النّار وعذابها هاجوا وماجوا ، مع أنّ الواقع أنّ التبشير والإنذار في الإسلام وجهان لعملة واحدة .
▪️الإصرار على ممارسة الطّقوس القديمة :
إنّ الإنسان السّنغاليّ ورث من أسلافه مجموعة من الطّقوس بعضها رواسب للدّيانة التّقليديّة ، فيما يرجع بعضها الآخر إلى عادات وتقاليد قديمة حاربها الإسلام في أكثر تفاصيلها ، سواء في نظام الأسرة أو في المعاملات العامّة ، أو غير ذلك ، فمثلا يوجب العرف السّنغاليّ مالم يوجبه الشّارع ، ويحرّم مالم يحرّمه الشّارع ، ويكره مالم يكرهه الشّارع ، ويفضّل مالم يفضّله الشّارع …؛ الأمر الذي يجعل بعض الدّعاة يقفون حُيارى أمام هذا الوضع ، فيحاولون التّوفيق بين هذه المعتقدات البدائيّة وبين ما جاء في النّصّ الدّينيّ ، أو يرمونها برمّتها عرض الحائط ، وحينئذ تتناوله الألسنة وترمي عليها شواظًا من نار . كما يفضّل بعضهم السّكوت عنها وعدم البتّ فيها خوفًا على أنفسهم .
▪️تعدّد المشارب في البلاد :
السّنغال بلد حافل بالطرّق الصّوفية بحكم متاخمتها جنوبًا لشمال أفريقيا التي منها جاء الفكر الصّوفيّ ووصلت بعض الطّرق والزّوايا ، فكان من المفترض أن يساعد ذلك على تسهيل عمل الدّاعية وتذليل ما قد يواجهه من صعوبات ، فينشرصحيح الإسلام عن طريق الخطاب الدّينيّ في جوّ من الرّاحة والأمن .
ولكنّ الواقع خلاف ذلك ، لأنّ التعصّب في الانتماء الصّوفيّ وصل بالسّنغاليّ إلى أن يضيق ذرعًا بكلّ يقوله الدّاعية ممّا يوهم المساس بطريقته صراحة أو ضمنًا ، مع أنّ هذا الكلام الذي يثير هيجانه لا يختلف في الغالب عمّا يدعو إليه صاحب طريقته .
ولهذا السبب يحجم حامل الخطاب الدّينيّ أحيانًا عن الخوض في القضايا المتّصلة بالطّريقة أو بالتّصوّف .
▪️ادّعاء العلماء للموسوعيّة :
إنّ حسن ظنّ الإنسان السّنغاليّ بدارس العربيّة أو شيخ الدّارة القرآنيّة ، أو الأستاذ ، كما يسمّونه ، وصل به إلى أن ينظر إليه على أنّه موسوعيّ يحيط بجميع العلوم المتّصلة بالإسلام ، ولعلّ ذلك الظنّ هو ما يؤدّي ببعض “الأساتذة ” إلى الاغترار بالذّات ، فيرى في نفسه الموسوعيّة وسعة الأفق ، فيتكلّم بالتّالي في كلّ المجالات ، ويبتّ في جميع النّوازل ، وقد يقول فيها بالرّأي أو يلجأ إلى القياس مع وجود النّصّ ، أو يقع النّصّ في يده لكنّه لا يحسن الاستفادة منه ؛ إذ لا يعرف النّاسخ من المنسوخ ، ولا العامّ من الخاصّ ، ولا المطلق من المقيّد ، ولا قواعد التّرجيح عند التّعارض . أو يبتّ على هواه في نازلة مع وجود فتاوى سابقة فيها قد تمّ الإجماع عليها من طرف العلماء ؛ ولكنّه لم يطّلع عليها ولا يعلم بوجودها أساسًا ، فيتّبع غير سبيل المؤمنين .
وعالم هذا شأنه ، غالبًا ما يحتكر وسائل الإعلام ويكتسح البرامج الدّينيّة في الإذاعات المرئيّة والمسموعة ، وقد يقدر بفصاحته وحسن بيانه على أن ينفذ في قلوب النّاس ، ويكسب ثقتهم ومحبّتهم . حتّى إذا عارضه زميله أو أفتى بخلاف ما أفتى به رمته العامّة بالجهل ، أمّا الخاصّة من المثقّفين غير دارسي العربية فيرون في الخطاب الدّينيّ ، على هذا الأساس ، تضاربًا وتناقضًا ؛ مع أنّ الواقع بعيد عن ذلك بعد المشرقين .
▪️التحجّر والميل للمحافظة :
وممّا عمّت به البلوى أنّ بعض من يطلق عليهم اسم العالم أو الأستاذ في السّنغال ، ينظرون إلى كتب معيّنة من كتب الفقه المالكيّ ، أو العقيدة الأشعريّة ، أوتراث المشايخ العلميّ …. ، على أنّها مسلّمات وثوابت لا يجوز الحياد عنها و لا القول بخلاف ما فيها ولو كان الخلاف لفظيًّا .
ولا يخفى ما في هذا الاتّجاه المتحيّز من الجمود والتحجّر، وإهمال الحداثة وإعمال الفكر إهمالًا تامًّا، حتّى إذا قال أحد العلماء بشيء يخالف ، ولو شبرًا ، معتقداتِهم وثوابتَهم رموه بالتّساهل في الدّين والخروج على المشايخ ومحاولة التّطاول عليهم . مع أنّ مشايخنا الكرام ، رضوان الله عليهم أجمعين ، كانوا في قمّة الانفتاح وقبول الرأي الآخر .
وقد تستغلّ الفضائيات وأصحاب المنصّات الثّقافيّة هذه الفجوة بين الفئتين ، فينظّمون برامج مُتَلْفَزةً ، أو خصومة دينيّة بالأحرى ، يدعون فيها ممثّلا للحداثيّين وممثّلا للمحافظين ، فتقوم الدنيا ، وتتعالى الصيحات . وهذه من أعتى الأزمات التي يتعرّض لها الخطاب الدّينيّ في السنغال .
▪️الصّراع الصّوفيّ السّلفيّ :
ويمثّل هذا التّحدّي أهمّ التحدّيات التي يواجهها الخطاب الدّينيّ عندنا في الآونة الأخيرة . ومن الواضح أنّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ هي التي هيّأت أرضًا خصبة للمدّ السّلفيّ ، أو الوهّابيّ ، فدخل بعض أنصاره في مهاترات كلاميّة ، بإطلاق تصريحات شديدة اللّهجة والطّعن في عقائد النّاس وذمّ التصوّف والمتصوّفة برميهم بالمبتدعين أو المشركين … إلاّ أنّ ذلك لا يمثّل شيئا إذا قيس بالثّقل الصّوفيّ في البلاد السنغاليّة، فالسنغاليّون أشربوا في قلوبهم حبّ التّصوّف والانتماء إلى الزّوايا الصّوفيّة . و لا شيء يوجب الطّعن في عقيدتهم والحالة هي المعروفة .
على أنّ العوام من المنتسبين إلى الطّرق الصّوفيّة ، يخيّم عليهم الجهل ، وبالتّالي سوء فهم رسالة الطّرق ومبادئها ، ممّا يفتح للفئة الأخرى نافذة لمحاولة الطّعن في المتصوّفة بلا استثناء ، ولا شيء يوجب التّعميم والحالة هذه .
ولسوء الحظّ ، قد أدّت هذه الفجوة الفكريّة ، أو المذهبيّة ، إلى كون الخطاب الدّينيّ عندنا يصطبغ بصبغتين مختلفتين : كلّ فئة من الفئتين تختار النّصوص التي تراها تخدم مذهبها فتخاطب بها النّاس ، قصد إبطال ما عليه المعارضون على سبيل التّعريض أو التّصريح أحيانًا ؛ ممّا قد يفتح باب التّساؤل في حيرة : هل هناك إسلام صوفيّ وسلفيّ معًا ؟ ، ولا يخفى خطورة هذا الوضع ؛ لأنّه يقضي على الوشائج والصّلات الأخويّة والودّيّة، كما يهدّد النّسيج الاجتماعيّ للأمّة .
وعلى كلّ حال ، ما كان ينبغي أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه ، كان المطلوب عقد منصّات الحوار، والتّعايشَ السّلميَّ ، والإيمانَ بالتّنوّع الثّقافيّ وحريّةِ الاعتقاد وقبولِ الغير.
▪️تحدّيات خارجيّة :
لا نريد الإسهاب في هذه الجزئيّة ؛ لأنّنا نقصد بالتّحدّيات الخارجيّة ما يواجهه الخطاب الدّينيّ في السنغال ، وغيرها طبعًا ، من أمور وافدة تأتي في صورة تيّارات فكريّة مختلفة الأسماء و متشعّبة المبادئ ، لكنّها في مجملها تتلخّص في خطوط عريضة ، تُعدّ عناصرها تقريبا بأصابع اليد الواحدة ، ومن أهمّها نشر الإباحيّة ، والدّعوة إلى الحريّة ، ودعوى الدّفاع عن حقوق الإنسان ، وفتح باب الإلحاد على مصراعيه …
▪️ومن أهمّ هذه التيّارات أو التحدّيات الخارجيّة :
العلمانية :
وهي فصل الدين عن الدّولة ! ، ممّا يعني أنّ الخطاب الدّينيّ لا يصلح إلاّ فيما يرتبط بالعبادات ، أمّا ما يخصّ الاجتماع والاقتصاد والسّياسة والقضاء …فلا ناقة للإسلام فيه ولا جمل . ولا شكّ أنّ هذا أقتلُ للخطاب للدّيني في أيّ بلد . وإذا كان هذا التيّار رأى النّور في أوروبا في أواخر العصر الوسيط ؛ نتيجة سوء معاملة رجال الكنيسة ( البابوات ) للنّاس ، واحتكارهم جميعَ السّلطات ، فتذمّر النّاس وانتفاضوا ، فإنّ المسلمين ليسوا في حاجة إلى الأخذ به ؛ لأنّ رجال الدين عندهم ليسوا كذلك . ومن العجب العجاب أنّ الإنسان السنغاليّ لا يتورّع عن القول : نحن علمانيّون ! .
العولمة :
وهي تحدٍّ خطيرٌ جدّا ، ما دامت الكلمة تعني اندماج النّاس ، على اختلاف بيئاتهم وثقافتهم وحضاراتهم وانتماءاتهم ….، في نظام واحد ثقافيّا وسياسيًّا واجتماعيًّا . وبالتّالي يصبح العالم يحكمه قانون واحد مبني على رؤية جهويّة ؛ الأمر الذي يؤدّي بسهولة إلى الذوبان في الغير وتقمّص ثقافة الآخر والانسلاخ من القيم . وإذا كان الذين أطلقوا هذا التيّار ليسوا بمسلمين فكيف ينسجم مع الخطاب الدّينيّ ؟. ومن مظاهر خطورته على مجتمع مسلم كالسنغال أنّ الدّاعي إذا دعا إلى فضيلة مغايرة لما عليه النّاس في بقيّة الأقطار الإسلاميّة أو غير الإسلاميّة ، وجد النّاس لا يمتثلون ؛ لأنّهم يعتبرون ما يدعو إليه هذا ” الأستاذ ” أمرًاعفا عليه الزّمان ، فلم يعد نموذجًا معياريَّا .
الماسونيّة :
وتعني كلمة ( المسانيّون) : ” البنّاءون الأحرار ” ، وهي دعوة عالميّة سرّيّة ومن مبادئها المعلنة التآخي والشّفقة ونشر الفضيلة . وهدفها الخفيّ هدم الشّرائع غير اليهوديّة . ومن أوجه الخطر في هذا التّيّار أنّ أصحابه يقومون باستقطاب كبار الشّخصيات في البلاد المختلفة ، وبضخّ الأموال لاستهواء النّاس وكسب ثقتهم . وما أخطر هذه الفتنة على الخطاب الدّيني ؟ .
وفي الختام ، نؤكّد أنّ السنغال بلد الخير والبركة ، وما عهدنا على أهلها من الانسجام والنّزعة الدّينيّة ، من شأنه ضمان السّلام والوئام بين جميع أطياف المجتمع . ولا شكّ أنّ هذا يتطلّب من الشّعب تعزير الوعي الإسلاميّ وقبول الغير ، وأخذ الحيطة وتوخّي الحذر حتّى لا ينغمسوا فيما تحوكه أيدي الذين يتّبعون الشّهوات فيميلوا ميلًا عظيمًا .