بقلم / شعيب أبو مدين جوب
بسم الله الرّحمن الرّحيم والصّلاة والسّلام عَلَى نبيّنا وحبيبنا محمّد وعلى آله وصحبه.
إن العنف بأشكاله المختلفة: النفسي، القولي، الجسدي والجنسي…ظاهرة قديمة وليست حالة حديثة في أوساط المدارس العالمية، ذلك لأن العنف موجود مع وجود البشر على الأرض واحتكاكهم داخل المجتمعات. والمدرسة جزء من المجتمع يمسها ما يمسه.
إنّ العنف معيار العلاقات الإنسانية، و هو يمت بصلة إلى احترام حقوق الإنسان، وبالتّالي كلما انتُهِك حقُّ شخصٍ أعقبته سلسلة من الاحتجاجات والمظاهرات والتلف والاعتداءات…
بَدَتْ في أوساط المدرسة السنغالية في أزمنة متفرقة وأماكن متنوعة وخاصة في هذه الآونة الأخيرة ظاهرةٌ متكررة بشكل ملحوظ ومقلق، فنشاهد سلسلة من الاعتداءات العنيفة والعنف اللاذع وصل بعضها إلى حد التقاتل بين تلاميذ أنفسهم، وتحطيم وإحراق لأماكن طلب العلم احتفالا لنهاية السنة الدراسية، تلك الأفعال المتعارضة مع قيم التربية والمبادئ الإنسانية والتعاليم الدينية، وأخطرها كلها تلك الاعتداءات الموجهة إلى فئة المدرسين حاملي الرسالة النبيلة المربين، منشئي الأجيال ومخرجيهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم.
إنّ هذه الحالة من التصرفات المشينة والانحرافات الشاذّة تدعو جميع المسؤوليين الغيورين على المجتمع المحبين للمدرسة والمعنيين بالأمر من مدرسين وتلاميذ وأولياء تلاميذ وسلطات دينيّة ودنيويّة إلى التفكر والحوار حول الأزمة ومحاولة تفسيرها لإجاد حلول ناجعة لتعود المدرسة موضعا آمنا ومكانا مطمئنا للتحصيل وطلب العلم والتّربية المستهدفة.
نظرا لتنوّع مظاهر العنف وتفرّق أسبابه، فالمسؤوليّة مشتركة بين الفئات المعنية بالأمر، لكن الحلول ما زالت متوَقَّعَةً ومرجوّة. لكن… كيف؟
- فكيف السبيل إلى إحلال السلام في ساحة المدرسة السنغالية؟
- وما الحل لإنهاء العلاقات العدوانية و الاعتداءات في المدرسة؟
- وما دور كلّ من أفراد الأسرة المدرسية: المدرسين، التلاميذ، الأولياء والحكومة لِجعل المدرسة مكانا آمنا ومجتمعا ديموقراطيا حيث يسود الأمن والحب المتبادل وتتمّ عملية التعلمية/التعليمية والتعايش السلمي؟
وللإجابة عن الأسئلة المطروحة نحاول تقسيم الأدوار كما يلي:
١- دور المعلم
٢- دور التلاميذ
٣- دور الأولياء
٤- دور الحكومة
1- دور المعلّم
المعلّم هو المسؤول الأولّ عن سيرورة فصله وضبط نظامه، لذلك وبعد كامل من التكوين الجيد و التخلق بالخلق المهني ينبغي للمدرس حامل الرسالة والثقافة أن يكون:
أوّلا: ذا شخصيّة قويّة وهيبة ووقار ويقف عند حدوده ولا يجاوزها إلى توافه الأمور وسفاسف الأشياء التّي تنحطّ من قيمته بعدما كانت مكانته مرموقة. وعليه باحترام نفسه قبل أن يطالب به غيرَه؛ بأداء واجبه والقيام بعمله والاهتمام بسلوكه ومظهره وهندامه؛ لأن ذلك مطلَبُ من مطالب الحياة، وأيضا من دواعي الاحترام و التقدير.
فلا أدري كيف دارت الأّيّام و تقلّبت الأشياءُ حتّى أصبح المعلّم ـ بعدما كان يُنظرُ إليه بطّْرْف خفيّ من الاحترام والتّجبيل والتّقدير ـ موضع السخريّة والاستهتار والعنف والاعتداء من قبل طلاّبه نفسه أنفسهم!!!؟
ثانيا: عَلَى المدرّس خلق جوّ مناسب سلمي ينبني على الحب و الاحترام المتبادل بينه وبين المتعلمين، ويتعاملُ معهم كما يتعملُ مع أبناءهِ بنفسه ، الذين هم دونه في السن والعلم والخبرة والنضج. ولا يحسب أنه أكثر منهم ذكاءً ولا أفضل منهم، فقط إنه أقدمهم في الحياة وأكبر منهم سنّا.. إلا أنه يجمعهم سقف العلم. فلا يجب عليه بداعية الآخذ بزمام الأمور وسلطان الفصل أن يستبد بسلطته ونفوذه عليهم تارة بفرض رأيه عليهم أو بالشتم والضرب والطعن باللّهجة العنيفة والكلمة الجارحة لشخصيتهم تارة أخرى. وبالتّالي يشعرون بالإحباط والخجل والتدنّي الّتي تبذر في قلوبهم ذرّة البغض، وتشعل في صدورهم نار الحقد و البغض والكراهية والعدوانية التي تولد في النّهاية العنف .
فلا يجاوز معهم حدود طلب العلم ولا يرتفع عنهم بالهيبة الزائدة والخشونة المفرطة إلى مرتبة تجعل بينه وبينهم حاجزا فلا يصلون إليه ولا ينتفعون من علمه. وإنّما يكون ذَا توسُّطٍ بين الأمور قائمًا بين التّشديد والإرخاء حسب الظّروف والمقام،و الْعَكْسُ مُضِرٌّ.
وَوَضْـعُ النَّدَى فِـي مَوْضِـعِ السَّيْـفِ بِالْـعُلَى مُضِـرٌّ كَـوَضْـعِ السَّـيْفِ فِـي مَـوْضِعِ النَّدَى (المتنبّي)
إنّ حالة الأمن والسلام في الفصل تعتمد على جودة العلاقة بين المعلّم و المتعلمين وبين المتعلمين أنفسهم وخاصة تعتمد على العدالة المطبقة في الفصل واحترام القوانين المدرسية وتطبيقها على حد سواء من غير تفريق ولا تفضيل ولا تمييز.
فإن عدم احترام أي واحد من هذه الأمور يستوجب اختلال النظام و سيادة الفوضى واستيلاء البلوى.
وإنّ العنف والكراهية والعدوانية معان مضادة مع الحب والتبادل والاحترام، وإذا حلت هذه مكان تلك، انتفى العنف وساد الهدوء والاحترام.
- وما دور كلّ من أفراد الأسرة المدرسية: المدرسين، التلاميذ، الأولياء والحكومة لِجعل المدرسة مكانا آمنا ومجتمعا ديموقراطيا حيث يسود الأمن والحب المتبادل وتتمّ عملية التعلمية/التعليمية والتعايش السلمي؟
2 ـ دورُ المتعلّمين
أَوّلاًّ: و بادئ ذي بدء، على طالب العلم في مختلف المستويات أن يعي بمهمة الشخص الذي يقف بين يديه ليلَ نهارَ، ويكرّس حياته ويبذل قصارى جهده ويبذل النفس والنّفيس، ويضحّي الغالي والرخيص، ويسهر الليالي لأجلهم ولنجاحهم… و أن يولي له فائق الاحترام والتقدير والتجبيل.
ومهما يَكنْ من أمرٍ فليَكنْ في عقلك وعلمك أنَّهُ ما أبغضكَ وما قلاكَ، ومن علّمكَ حرفا فهو مولاكَ .
ففي حقهم قال الشاعر أحمد شوقي:
قُمْ لِلْمُعَلّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلاَ كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولاً
وثَانِيًا : فطلاَّب المرحلة الإعدادية والثانوية فما فوقَ أكثرهم في سن المراهقة أي: لم يبلغوا بعد سنّ الرّشد والنّضج،فهم في مرحلة الجنون والعظمة و في هذه المرحلة يأخذهم العَجَبُ والإعجاب بالنفس والإكثار من الرفقاء الجدد الغرباء و الاقتداء بهم، فتنشأ فيهم إثر هذه العلاقات الجديدة سلوكيات جديدة شاذّة وتصرفات غبية، يتظاهرون بالجرأة والشجاعة والمنافسة، يؤمنون بالحرية التامّة والاستقلالية الكاملة لذلك تراهم يعادون كُلَّ مَنْ يَأمرهم بالمعروف أو يَنهاهم عن المنكر.
عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَـكُـلُّ قَرِينٍ بِالْمُـقَـارَنَ يَقْــتَـدِي (طرفة بن العبد)
وللصد عن سوء التفاهم الموجود بين الطلبة ومعلميهم يتحتّم إشراكهم في أنشطة الحياة المدرسية والنشاطات التعلمية مع توعيتهم حول الشعور بالمسؤولية الفردية والمواطنية كاحترام الكبار ورحمة الصغار.
فلا يجوز إهمالهم واعتبارهم صغارا فحسبُ، ووعاءً خالٍ من الإرادات والآراء والأفكار كالورقة البيضاء، ولا ينبغي اتخاذهم كآلة تسجيل يقومون باستقبال كل ما يشحن به المدرس عقولهم و يلقيه إليهم ويمليه عليهم من المعلومات القديمة والحديثة، كما تُنقلُ السواحلُ عبر الأنابيب، فيسجّلونه في ذاكرتهم ويحفوظونه في صدورهم روايةً بلا دراية…
فالمراهق في هذه المرحلة يحسُّ بوجوده ويثق بنفسه وقدراته، فينبغي تفهّم نفسيّته ومحاولة إدراك ميولاته وحالاته، فهو في حاجّة ماسّة إلى المصاحبة والمرافقة والتّوعية وما إلى ذلك أكثر من غيرها.
ومن النّافع أيضا إشراكهم في أعمال المدرسة وإعطاءهم فرصة لإبداء آراءهم إظهار آلامهم وآمالهم حول سيرورة العمل المدرسي قبل أن ينفد صبرهم ويمتلأ كأس غيظهم فينفجروا دفعة واحدة، ويتصرفوا بما لا يحمد عقباه.
ففي حسن ظنّنا إن طلابا مكوَّنين كهؤلاء حاملين مسؤولية الدفاع عن آراءهم وحقوقهم مواطنين وطنيّين، كما يحترمون الأغيار وحقوقهم، يكونون أقل اعتداء و عنفا وأبعد عن الاستبداد والتمرّد في ساحة المدرسة وفي المجتمع بأسره.
3ـ دور الأولياء (أولياء التلاميذ و الأسرة)
من المفيد بالدّرجة الأولى إقامة علاقات وطيدة بين المدرسة وأسرة المتعلم، إذ إنها تساعد كثيرا على المتابعة الدائمة والمراقبة المستمرة لسلوكيات المتعلم، وفي هذه العلاقة الدائبة، والوضعية الدائمة بين المدرسة والأسرة تكون هذه الأخيرة همزة وصل بين المدرسة والمتعلم وتكون في معرفة تامة بأحواله: بمواظبته العملَ وعدمِه وحضوره اللازم وغياباته، وتصرفاته الحديثة وسلوكياته الجديدة…والقوانين والتشريعات المدرسية ليتم تطبيقها في البيت كما يتم تطبيقها في المدرسة.
لِدَرَجَةِ أَنَّهَا تُساعِدُ على ضبط تصرفات المتعلم ومتابعته في البيت والرفع من مستواه، وهذا مفيد جدا لأن المتعلم الضعيف المستوى دائما في حالة اليأس؛ إذ أنّه يشعر بالضعف والخجل أمام أقرانه المتميّزين، ويحسّ بالإحباط والدونية تجاه زملاءه المتفوّقين في الفصل، وهذا يمكن أن يقوده إلى البغض والحقد عليهم وكراهتهم فيتولد من ذلك العنف والاعتداء عليهم وعلى غيرهم…
4 ـ دَوْرُ الحُكومةِ:
إن الحكومة هي المنظومة التي تتكلّف ببناء المدراس وتجهيزها بمتطلّباتها المادية والمعنويّة ومستلزماتها الدراسية والبيداغوجية… وتتكفّل بالرواتب الشهرية والمنح الدراسية والتكوينات المستمرّة..
ومن ثمَّ تحدّد للمدرسة مسارها بوضع المناهج والبرامج، و تحدّد للمدرسة الغايات التي تنوي تحقيقها، و تضع لها المرامي التي تريد الوصول إليها، وتختار لها الأهداف التي تريد أن تحققها …
على الرغم من كل هذه النفقات الباهظة والأموال الطائلة بالإضافة إلى ذلك أن 40% من ميزانية الدولة مخصص لقطاع التربية والتعليم – على حدّ قولهم – فإن السنغال ما زالت تعاني أزمة دراسية خلقية زيادة على الأزمة الاقتصادية و السياسية…
هذا وإن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن الحكومة هي المسؤولة الأُولى، وأنّ توقُّعَ الأسباب الضامنة والحلول النّاجعة لأمن المدرسة ونجاحها أن تصدُرَ من جهتها أجدرُ و أَوْلَى.
فَمن أوجب واجبات الحكومة المدرسية ضرورة وضع المدرسة في وضعية جيدة وفي ظروف مناسبة، من تحسين وضعية المعلمين والمتعلمين معا الذين يمثلون النقطة المركزية للعملية التعلمية/التعليمية بتجنيد عدد كاف من المدرسين وتشييد فصول ملائمة ووضع المتعلّمين في ظروف ملائمة و فُرص متساوية، بوضع حدِّ عن الملاجئ الموقتة والدراسة تحت الكهوف وداخل الأكواخ والتقليل من الكثافة والاكتظاظ في الفصول، لتسهيل مهمة المعلم وعدم إرهاقه وتكليفه فوق المستطاع من الساعات الزائدة والحصص الكثيرة.
وخلاصة ذلك أن العمل مع العدد القليل أسهل على المدرس من حيث تخفيف العبء والعمل، وأكثر إنتاجا وأيسر لضبط الفصل وتَمَكُّن المدرس من الاهتمام ومراعاة فروق التلاميذ الفردية ومعالجة مشاكلهم النفسية والدراسية الشخصية بحيثُ يساعد ذلك على رفع مستواهم وزيادة نسبة نجاحهم.
ونتائج الامتحانات للسنة الدراسية 2019/2020- حيث تمّ تعطيل الدراسة إلا لفصول الامتحانات وتقسيمها عشرين متعلما في كل فصل – خير دليل على ذلك.
فبالتّالي فإنّ ضعف المستوى والعنف الظاهر في المدرسة نتيجة لتراكم عدة عوامل ترجع جذورها إلى أزمنة بعيدة . ومنها ما يرجع إلى خلل في المنهج الدارسي المستورد من الغرب الذي لا يوافق مع مبادئنا ولا يجسّم قيمنا ولا يمثّلُ هويتنا. وفي النهاية فنسبة الرسوب مرتفعة ومتزايدة والبطالة دائمة وعورة المنهج منكشفة لأنه لا يضمن لأبناءه نجاحا في المدرسة ولا عملا بعد المدرسة، ولا تورثهُ أدَبًا مرضيًّا ولا خُلُقًا حَسَنًا.
ومن ناحية أخرى فإنّ الإنسان ابن بيئته و محيطه ومجتمعه الذي يضمه ويعيش فيه؛ فلا يمكن للمدرسة بحالٍ من الأحوال أن تستغني عن الأزمة الخلقية وغياب الوازع الديني الذي يعاني منه المجتمع، بالإضافة إلى ذلك العنف الظاهر القائم في حياة المجتمع من الملاسنة والتّضارب في الحلقات والجلسات والمسلسلات التّلفزيونيّة العارية التي تخلو من كل شيء إلا الخلاعة و الجسارة والوقاحة. ومنها ما يُشاهَدُ من أعمال العنف والوحشيّة في المَصارع والملاعب وساحة السّياسة التّي تعكس بصورة سيّئة عَلَى ذاكرة الطّفل وتحملُ معه هذه المعاني الفاحشة الّتي يُترجمُها إلى أعمال عنف واعتداء عند الشعور بالغضب.
فكل هذه المظاهر تحيل المجتمع – بما فيه المدرسة- عن مساره ويشكل على التربية صعوبة لا يسهل اجتيازها
ومن نافلة القول إنّ ظاهرة العنف والاعتداء عَلَى المعلّمين في أوساط المدرسة أمر معقّد ومقلق، ومتعدّدة المظاهر، متنوّعة الأسباب لذلك تدعو جميع الفئات والطبقات من المعنييّن بالأمر للحوار لأجل التّوصّل إلى حلول ناجعة.
لا يكون من السّهل إيجاد حلول طارئة ناجعة لها، وخاصّة إذا كانت من طرف واحد. لكنّا بمسؤوليّتنا الفرديّة وبالشّعور بمهمّتنا داخل الأسرة المدرسيّة حاولنا في هذه الأسطر البسيطة إدلاء دلونا لنجاة سفينتا sunu gaal)) من الغرق وإرساءها في بَرِّ الأمان والسّلام. وفتحنا نوافذَ ينظُرُ فيها أرباب العين الثّاقبة النّظرات البعيدة لعلَّ اللَّه يفتح بها أبوابا للأمن والأمان والنّجاح والصّلاح.
وصّلّى اللهُ وسلّم عَلَى نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
خُتمت يوم الجمعة 11 محرّم 1443ه
موافق 20 أغسطس 2021م