بمناسبة اليوم الأسود بالنسبة لي، أعيد نشر مقالتي المعنون ب” الشيخ تيجان غاي المرحوم وإنجازاته ” تكريما لروحه الطاهرة ولتكون مسيرة هذه الشخصية العظيمة عبرة للجيل القادم الذي أتمنى أن ينال إعجابه في هذه السطور،،، .
يعتبر الشيخ تيجان غاي أحد الرموز البارزة والخالدة على جبهة التاريخ السنغالي، إذ المحكيُّ عنه ساهم ـ وبجدية ملفتة للأنظارـ في إثراء المكتبة العلمية السنغالية بإنجازات ومؤلفات ومحاضرات توعوية مؤثرة، لا يزال التاريخ يعتز بها اعتزازا كبيرا ويحسبها في عداد الرجال الصالحين الذين تركوا بصمات رائعة ومحمودة في السجلات الوطنية أو الأرشفيات التاريخية.
وإن قامة علمية كهذا وبهذا القدر الرفيع والطراز المجيد العتيد، لينبغي أن يُحْتفى بذكراه سنويا، لِما قدمه للبلاد والعباد من مخلفات علمية وخدمات إنسانية ــ تذكر فتشكر ــ
واعترافا بالجميل وشعورا بالمسؤولية والوطنية معا سأحاول ــ وفي المحاولة بعض الفضل ــ أن أسجل للمحبين والأصدقاء حياة هذا الطود الشامخ والجبل الراسخ.
** النشأة والتعلم**
انحدر الشاعر الكبير والأديب الوقور الشيخ تجان غاي من أسرة معروفة بالتمثل الأخلاقي والديني، وولد سنة 10/مارس/1951م في قرية ربانية بامتياز، وهي تسمى ب< انغيك فال، وتبعد عن سَكَّلْ بأربعة كيلو مترات…>
وتربّى الشيخ تحت كنف والديه المرحومين بإذن الله الشيخ الحسن غاي المشهود بالعلم والورع والتقوى والتفاني في حب شيخه العارف بالله الحاج ابن عباس صل التجاني، والسيدة يايْ جوبُ جانج التي عرفت بارتياد المساجد ودوام النوافل وملازمة المصحف إلى أن لقيت ربها قانتة مطيعة.
نشأ التجاني في هذه البيئة الصافية الخالية عن الفيروسات القاتلة الهدامة، فنهل أولا من والده الشيخ الحسن القرآن الكريم وبقية الأبجديات العلمية الضرورية، ومن جده مولاي الحاج ابن عباس بعض العلوم والفهوم والأسرار، ومن جده بقرية انجانج وقتئذ الحاج مود فاط جنغ، غير أن النفس التواقة إلى الارتقاء والطموحات العالية جعلتا الشيخ يتحول من لوغا إلى فاس توري، ليتلقى من معهد حامل الإشعاع العلمي والتربوي في كجور، الجامع بين التنظير والتطبيق اللغوي الكبير والسني الشهير مولاي العبقري الشيخ الهادي توري المرحوم إن شاء الله، فأخذ الأستاذ من شيخه شرج مود توري قسطا كبيرا من علمه وورعه ونبوغه وعبقريته الوقادة، ما جعل الشيخ الهادي توري المعلم الأكبر يضرب المثل بتلميذه النابغ الفطن في الجد والاجتهاد، ولا سيما حينما وصله خبر بأن الشيخ تجان غاي بدأ يفتخر قائلا: ( لا يوجد في المجلس من هو أعلم مني بالنحو العربي ….، فقيل له : حتى الشيخ الهادي؟؟ فقال : إيه نعم، فناداه الشيخ ليتأكد من ذلك، فأكد له الأستاذ شيخ ما قاله من قبل دون تردد، ففرح الشيخ الهادي فرحا فاق التصوير والتوصيف، فجعل يضرب به المثل في الثقة بالكنز المعرفي والعلمي المخزون في كل إنسان……)
هكذا زاول التجاني المرحوم تعلمه بين المحاضر العلمية كدأب سابقيه، إلى أن واصل مشواره العلمي ــ بعون الله وبمساعدة جده الحاج ابن عباس ــ في البلدان العربية المسلمة، مرّ الشيخ أولا بمصر ثم ليبيا أخيرا عام 1972م حيث حصل على شهادة الليسانس، فانقطع عن الدراسة لما نُعِيَ بوفاة والده، ولم يكن ثمة مناص إلا العودة إلى الأهل لكفالتهم ورعاية الوالدة، وإشراف الموروث الديني الذي كان الوالد يديره قبل أن تمسه يد الضياع، وهو إذ ذاك حامل 28 ربيعا.
عاد الشيخ إلى البلاد إيمانا منه بأن العلم ليس في الشهادات العالية والإجازات الفاخرة، وإنما يتجلى في قوله تعالى: ” واتقوا الله ويعلمكم الله …” فكان بذلك عالما ربانيا، وشاعرا مفلقا، وأديبا مفوها…. بل وأثر في الديار السنغالية أكثر من حاملي الشهادات العالية بألف ألف مرات.
هذا ومن الحقيق بالبوح والإشادة به أن الشيخ أثناء مكوثه في ليبيا كان يقطع من منحته الشهرية 17000 فرنك سيفا ليرسل بها إلى أمه البارة، وهذا الرقي الإنساني المتميز ينبغي أن يقتفي به الغرباء بصفة عامة والطلاب بصفة خاصة.
** المهنة العملية **
على الرغم من قلة الشهادات الأكاديمية التي كان شيخنا يحملها، فقد عاد عام 1979م إلى وطنه ملازما جده الفقيه الصوفي والعارف بالله سميي الحاج ابن عباس صل بن ميرو مدة غير قصيرة، فاستفاد من حكمته المشهورة وجرأته على الحق، فظل كاتبا له وسميره، ومستتشيره، وممازحا له تارة، لأن هناك علاقات وطيدة بين الجد والحفيد، فكان بذلك حفيدا مؤتمنا، حيث حباه جده كما هائلا من أسرار الطريقة التجانية، وأجازه أخيرا إجازة مطلقة، وكل ذلك ينم عن أعمال جبارة قام بها الشيخ تجان في جمع قصائد جده وبقايا أعماله الأدبية والتعليمية، إلى أن صار التجاني غاي بحرا لا ساحل له في الآفاق المعرفية.
وإلى جانب ذلك، فقد مارس أفضل مهنة عملها الرسل وهي التعليم والتربية والتثقيف، فكان يعقد في بيته مجلسا علميا يدرس فيه النحو والتفسير وغيرهما ولا سيما مساء كل يوم الاثنيين، وعمل أيضا في المفتشية الجهوية بلوغا بعد أن كان في سانلويس، كما كان مديرا للتعليم الابتدائي بمعهد جده ( الحنفية ).
لم يكن الشيخ متفرجا ولا معرضا عن مجتمعه الذي يعيش تحت خيمة السلطنة والعلمنة والشيطنة، بل ظل طيلة حياته المباركة حركيا ناشطا، فكان يحضر في المؤتمرات الأدبية ليشارك بالأدباء قصائده الذهبية الماتعة، التي أَلَفَتِ المرتبة الأولى في تلك المنابر الأدبية، إلى كونه محاضرا معتبرا مؤثرا في أغلب العواصم الدينية بالسنغال، فتارة تجده في تواون، وطورا في طوبى، وحينا في انجاسان، ودهرا في كولخ، ومرة في بير، ومرات عديدات في عواصم أخرى دينية….
هذا ولم يكن شيخنا محاضرا وطنيا فحسب، إذ له العديد من محاضرات دينية ألقاها في الولايات الأمريكية المتحدة وفي المغرب أيضا، ويصل عدد محاضراته إلى 800 أو أكثر..
وليس خافيا على أنه كان إماما راتبا وخطيبا جهوريا فصيح البيان في جامع شيخنا ابن عباس صل بلوغا لمدة طويلة ، وكان يحسن فن التأثير والتوغل في نفوس السامعين، إذا خطب أعجز وأثر، هكذا كان ديدنه إلى أن لقي حتفه.
** الإنجازات **
بما أن قيمة كل شخص تُدْرَكُ حقيقة بعد رحيله؛ فقد خَلَّفَ الراحل لنا وللأجيال القادمة مكتبة ثرية بكل صنوف الكتب والمجلدات والنوادر والروايات، وأشرطة مسجلة وفيدوهات متنوعة تبلغ العشرات، إلى جانب مؤلفاته العلمية المتنوعة في المواضيع، البالغ عددها 18 كتبا، والتي تعد كنزا ودررا علمية يستفيد منها القاصي قبل الداني، وخطبه الجمعية التي ما إن تطالعها مرة إلا والدموع تذرف من المآقي مجددا، مع حسن تربية النشء والأهل والأحباء على احترام الأجداد والآباء، والتغاضي عن هفواتهم إن وجدت أصلا، مع العناية والاهتمام بتراث الوطن ومخطوطات الشيوخ تحقيقا كان أو دراسة أو تعقيبا كما كان أنموذجا حيا في ذلك، وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أهم مؤلفاته العلمية:
1_ الشيخ عباس صل حياته وأعماله وهذا الكتاب ترجمة لحياة جده ومربيه مولاي الحاج ابن عباس صل التجاني رحمه الله…..
2_ * هذا العبقري* وهو أيضا كتاب يتحدث فيه الشيخ عن حياة شيخه المجدد الشيخ الهادي توري رحمه الله…..
3_ * القاضي مجختي كَلَ الذي على الله توكل* وهو أيضا ترجمة لعالم يكاد أن ينسى في التاريخ السنغالي قدس الله سره.
4_ * الأنيس في تدريس اللغة العربية * وهذا الكتاب تربوي بامتياز، حيث لا تخلو منطقة في السنغال إلا وفيها هذا الكتاب لأهميته، وقد وصل عدد طبعه ستة.
5_ * من وحي الواقع *.ديوان شعري جمعه في حياته عام 2001، ومع ذلك له قصائد أخرى فريدة بنوعها لم تجمع بعد، وأرجو أن تنال يد المساعدة من الأيادي الفاعلة للخير حتى تطبع مرة أخرى.
6_ * التجانية الأحمدية والسنة المحمدية * وهو كتاب يتحدث فيه الشيخ عن الطريقة التجانية ومدى تطابقها بالسنة النبوية الغراء، ومع تعمق ملحوظ في فقه هذه الطريقة الأحمدية المحمدية الحنيفية.
7_ * كتاب التقديس بين التلبيس والتدليس والتدنيس * وهو رد لكتاب موسوم ب ” تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي” ولقد أبدع شيخنا في هذا الرد إبداعا لا يزال منقوشا في مخيلاتنا وأمخاخنا، حيث جمع بين الحصيلة العلمية المعرفية والأسلوب الفكاهي الاستهزائي، فكان بهذا محبوبا، وكتابه متلوا يتسلى به الطلبة المنصفون الغيورون على الدين والصوفية.
8_ * التصوف الإسلامي وتحديات اليوم * وهو عبارة عن محاضرة ألقاها في جامعة رمضان للمسترشدين والمسترشدات، ثم جمعها وغربلها فزاد عليها، ثم أخرجها على شكل كتاب.
9_ * لا يفقهون* وهو رد للوهابية ومناقشتهم في بعض المسائل التي يكفرون بها التصوف والمتصوفين…
10_ * المرشد أحمد عيان سه *وهو كسابقيه، مترجم لحياة الأديب المرشد، رحمه الله.
11_ * الراسبون في الامتحانات البيداغوجية أسباب ومقترحات * وهو كتاب غني عن التعريف، فالعنوان واضح جدا.
12_ * لا بدَّ من ” فلا بدّ” * وهو دراسة موجزة لقصيدة كتبها السيد الحاج مالك سه رحمه الله، مع ترجمة ذهبية للسيد مود.
وإلى جانب ذلك تحقيقاته المتكررة لدواوين جده مولاي الشيخ عباس صل، ومؤلفات أخرى لم تطبع بعد.
** وفاته **
بعد حياة حافلة بالإنتاج والإبداع والإنجاز والإضافة، ونزهات متكررة في بطون الكتب والتآليف، ومصارعات كثيرة للذب عن التصوف والمتصوفين؛ يستقبل العالم الإسلامي عامة والدولة السنغالية خاصة نعيا لا يكاد يصدق، أو يترك في النفوس شيئا لا يعبر، وإن عبر فلا يفسر، إنه وفاة البطل السنغالي الأبي الحر، ذلك الصرح العلمي، والرمز الثقافي، والقامة الأدبية، والموسوعة اللغوية، صاحب القلم السيال، القائم على الحق والدفاع عن الإسلام، المثل الفذ في الاهتمام بتراث الأجداد وكنوزهم.
هكذا رحل الشيخ تجان غاي الجريء في مكتبه بداره ضحى يوم الجمعة بتاريخ 07/01/2011م الموافق 03/صفر/ 1432هـ تاركا في نفوسنا وقلوبنا فراغا لا يسد أبدا، وفي وقت كنا في أمس الحاجة إليه وإلى قلمه النوراني المبارك.
تغمد الله فقيدنا التجاني بشآبيب رحمته، وألهمنا الصبر والسلوان.
- كل عام ونحن مفتقدون إليك يا ساكن مليارات الأرواح *
7-يناير-2022
محمد عباس امبينغ / تونس الخضراء