
بقلم / الكاتب عثمان سيك سفير الأزهر
لم تكن الأرواح التي أزهقت في المظاهرات السنغالية الأخيرة مجرد خسائر بشرية في سياق سياسي مأزوم، بل هي علامات صارخة على أزمة أعمق: أزمة غياب البعد الأخلاقي في إدارة الدولة. فالحكومة، رغم وعيها بضرورة النهضة الاقتصادية من خلال مشروع “سنغال 2050″، تعاملت مع مسألة الأخلاق وكأنها شأن ثانوي يُذكر في الهوامش والخطابات الرسمية، دون أن يُجسّد في السياسات العملية والقرارات الملموسة. وهذه الثغرة خطيرة، لأن الاقتصاد الذي يُبنى في غياب القيم الإنسانية يظل هشًا ومعرضًا للانهيار أمام أول أزمة اجتماعية أو سياسية.
إن كل روح سقطت في الشارع السنغالي تعلّم المجتمع درسًا أبعد من السياسة المباشرة، فهي شهادة تربوية وأخلاقية تؤكد أن العدالة والكرامة ليستا ترفًا يمكن تأجيله إلى حين اكتمال التنمية الاقتصادية، وإنما هما الأساس الذي يمنح تلك التنمية مشروعيتها. فالمواطن الذي يرى الدولة تغض الطرف عن حرمة دمه يفقد ثقته في المؤسسات، وحين تنهار الثقة، يصبح أي مشروع اقتصادي، مهما بدا طموحًا على الورق، مجرد بناء بلا أساس أخلاقي.
هذا البعد التربوي نجد صداه في فكر البرازيلي باولو فريري الذي شدد في كتابه تربية المقهورين على أن التربية ليست مجرد نقل للمعرفة بل عملية تحررية تُعيد للإنسان كرامته. وإذا طبقنا هذا على السياق السنغالي، أدركنا أن الأرواح الساقطة تفرض علينا إعادة صياغة الرؤية التربوية للدولة، بحيث لا تُعنى فقط بالمهارات التقنية في سبيل السوق، بل تزرع في الأجيال القادمة ثقافة العدالة وحرمة الحياة. وهنا تتقاطع المأساة مع مفهوم العدالة الانتقالية، فهذه الأخيرة، وإن كانت تُعرف عادة كإطار سياسي لمعالجة الانتهاكات، إلا أنها ينبغي في السنغال أن تتجاوز بعدها القانوني لتصبح إطارًا تربويًا يربي الدولة على أن سلطتها ليست امتيازًا بل أمانة، ويربي المواطنين على أن النضال السلمي سبيل أخلاقي لا غنى عنه.
وإذا كان جون رولز قد بيّن في نظريته العدالة كإنصاف أن أي نظام سياسي لا يضع العدالة في قلب مشروعه يفقد شرعيته، فإن غياب الاعتراف بالضحايا وتهميش البعد الأخلاقي في مشروع “سنغال 2050” يجعلنا نبني اقتصادًا بلا روح وتنمية بلا معنى. وهذا ما يبرر النقد الموجه إلى الحكومة التي تُكثر من الحديث عن النمو الاقتصادي وتوسيع الاستثمارات، لكنها تجعل القيم الأخلاقية في المرتبة الثانية، وكأنها مجرد زينة بلاغية لا أكثر. والحال أن التجارب العالمية أثبتت أن الاقتصاد لا يمكن أن يُحفظ بغياب الأخلاق، فقد بيّن أمارتيا سن – الحاصل على نوبل في الاقتصاد – أن التنمية الحقيقية هي تنمية الحرية، أي أنها تُقاس بمدى احترام كرامة الأفراد لا بمجرد مؤشرات النمو.
إن الأرواح التي سقطت يجب أن تتحول إلى ذاكرة وطنية تحمل رسالة مزدوجة: رسالة إلى المسؤولين بأن السلطة بلا أخلاق تتحول إلى عنف منظم، ورسالة إلى المواطنين بأن المطالبة بالحق يجب أن تُصان بروح المسؤولية والحكمة حتى لا تنزلق البلاد إلى الفوضى. والمطلوب اليوم أن تتحول هذه المأساة إلى انتقالية تربوية تُدمج في المناهج التعليمية والخطاب الثقافي والمشروع الوطني، حتى ينشأ جيل يدرك أن التقدم الاقتصادي لا ينفصل عن صون الحياة الإنسانية.
وبهذا المعنى، فإن الدماء التي سالت في شوارع السنغال ليست فقط شاهدًا على ظلم وقع، بل هي أيضًا دعوة مفتوحة لبناء دولة أخلاقية تُعيد الاعتبار للقيم في قلب التنمية. وإذا لم تُدرك الحكومة أن الأخلاق ليست ترفًا وإنما شرط للتقدم والازدهار، فإن كل مشروع اقتصادي سيظل مهددًا بالانهيار. إن العدالة التربوية المستلهمة من هذه الأرواح الساقطة هي الطريق الأضمن إلى سنغال تُوازن بين التنمية والكرامة، بين النمو والحرية، بين الاقتصاد والإنسان.
المراجع
فريري، باولو. تربية المقهورين. ترجمة: كمال خوري. بيروت: دار العلم للملايين، 1980.
رولز، جون. نظرية في العدالة. ترجمة: ليلى الجبالي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
سن، أمارتيا. التنمية حرية. ترجمة: أحمد فؤاد بلبع. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 326، 2006.
حرر في طوبى 17 سبتمبر 2025