مقال : خَربَشَاتٌ عَلَى صُورَةِ التَّاريخِ

0

للبَاحِثِ الحَاجِ بُور نيَانغ الجُلُوفي
مُتَخَصِّصٌ فِي الحَضَارَةِ الإِسْلاَمِيَّة وَبَاحِث في تَارِيخ أَفريقيا الغربية.

[وقفةُ تأمل لبَاحث غيور بتراث أجدادهِ، يَسهر ليلَ نَهارَ لربط غرب البلد بشِماله تاريخيا وثقافيا لكي يسجد لنا الح بإذن اللهِ سبحانه تعالَى]

في هذه الآونة الأخيرة ظهرت في السنغال ظاهرة خطيرة؛ وخطورتها تظهر في نتائجها التي تهدم أكثر مما تبنِي. وهيَ سَرد أحداث تاريخ البلدِ على بمنظور واحد وبروح أقرب من العصية بالوطنية التي هي إحدى شعارات بلدنا العزيز السنغال التي هيَ: (أمة واحد ـ شعب واحد ـ عقيدة واحدة) يحاول كل قبيلة لفت انتباه الناس إلى أمجادِ منطقتهِ، أو تشويهِ بعض الحقائق بتضخيم بعض الأحداث التاريخية؛
1ـ التوطئة:
أهل “فوتَ” هم الأصول إذا تكلمنَا على لسانِ الدينِ؛ فلولاهم مَا وصلَ إلينا نورَ هذا الدين الحنيف الذي يمكن القولُ بأنه رسخَ في “تكرور” عندمَا وصل إلى أرض مملكةِ “غَانَا” العظيمة منذ القرن الأول الهجري… فهذا البلد العظيم تاريخيا وثقافيا قد نالَ هذا الشرف لمجاورةِ جل إماراتهِ نهر السنغال؛ ويمكن القول بأن هذا الأمر ـ مجاورته للنهر ـ مهَّدَ له الطريق للتعايش معَ الممالك الكبيرة في المنطقةِ مثلَ “غانا” ومالي “الإسلامية” وبعدهَا؛ واليومَ ترى بعض سكانِ منطقةِ “تِكرور” “فوتَ” اليومَ، أحفاد الصحَابي الجليل عقبة بن نافع (حسب بعض الروايات) الذينَ يريدونَ ربط أنسابهم إلى العربِ. وهم ـ أعني ـ الفلان سبقوا العربَ في وضعِ بصماتهم في التاريخِ الإنساني. وهذا الرأي ـ الذي هو معضلة غير عميقة ـ في التاريخ يقودهم وبعض المخصصينَ في تاريخِ “تكرور” إلى الزعمِ بأن تاريخ إفريقيا بدأ أو تاريخَ بلاد “تِكرور” بدأ معَ ظهور الإسلامِ في القرن السادس الميلادي! وكأنَّ هذه الأرض العريقة في التاريخ والحضارةِ لم يكن جزء من مملكةِ “غانا” التي ذهبَ جل الباحثينَ إلى القول بأنها نشأت في القرن الرابع الميلادي. وعاصمة هذه المملكة كانت في أرض شنقيط (جنوب شرقي موريتانيا اليوم) ويشهد ذلك بعض الاكتشافات الأركيولوجية. كما كانت “كومبي صالح” مركزا تجاريا، سيطرت على طرق التجارة بين الشمال البربر والجنوب الزنوج. والذينَ قاموا بإقامةِ هذه المملكة ـ وإن كثرت الأقوال في أصولهم ـ قيلَ بأنهم منَ الزنوجِ الأحرار، ومن قبيلة “السونكي” على أغلب الأقوال؛ وهؤلاء أيضا هم من قاوموا وناضلوا لنشر الإسلامِ في المنطقةِ على بساطِ السلامِ والحكمةِ قبلَ ظهور المرابطينَ. ومما ثبتَ تاريخيا أن التجارة كانَ مهنة هؤلاء الرجال الكرماء، ويقول المؤرخونَ بأن ناشري الإسلام في المنطقة كانوا تجارا؛ وأهل “سونكي” مشهورون بهذه المهنة الشريفةِ. كما يجدر الإشارة أيضا بأنَّ أرض “تكرور” أيها الإخوة لم يكن مسكنا لقبيلة واحدة، وهذا يعرفه كل باحث حصيف؛ فقد كانت موطن السونكي، والفلان، والولف، والسيرير والمورِ وغيرهم من الزنوجِ وكذلك البربر؛ وهذا لا يعني بأنه لم يكن هناك أي أثر للفلان فيها؛ فقد كانت لغة هذه القبيلة العظيمة لغة التخاطبِ والتشاورِ في “تكرور”، وذهب البعض إلى القول بأن هذا الأمر هو الذي أدى إلى ظهور كلمةِ “حَالِ بولارْ” كلغة رسميىة لجميع سكان منطقةِ “تكرور” فيفهم من ذلكَ اللبيب بأنَّ “تكرور” ليست اسمَ قبيلة وإنها هوَ اسم لمنطقة عريقة في القدم، رسمت بصماتها في صحيفة تاريخ المنطقةِ.
2ـ العلاقة بين “فوتَ” و”كجور” قبلَ قيام دولة الأئمة:
وفوتَ قبلَ قيام مملكة “دينياكوبِ” في القرن السادس عشر الميلادي كانت تابعة لمملكةِ “مالي” الإسلامية التي أسسها الملك المسلم “ماري جاطَ” المشهور “سونجتَا كيتَا” عام 1235م. فهذا الملكِ العظيم “كُولي تنغَلاَ” هوَ الذي قامَ بأخذ استقلالِ “فوتَ” من القوى الخارجية، فَوحَّد الإمارات القبلية الموجودة في “فوتَ” يومئذ، فأصبحت “فوتَ طورُ” (وهل صحيح أن “كُولِي” شرَّف حليلته بتسميتها هذا البلد العظيم؟) بعدَ ذلك قوة عظيمة في المنطقةِ وبالأخص المنطقة المشهورة اليوم بالسنغال وجزء من موريتانيا الحديثة. ومن آثار قيام هذه المملكةِ أنها ضعَّفت قوة بعض الممالك في المنطقةِ مثل مملكة “جلوف” التي سببت لها قيام هذه القوة الفتية العظيمة انفكاك امبراطوريتهِ العظيمة، فبعدَ أن استرجعت “كولي” أرض آبائه التي كانت تابعة لـ “جلوف” استقلت منها “كجور” بعدَ معركةِ “دنكِ” عام 1549م ثم تَبعتها بعدَ ذلك ولايات الأخرى ومن أشهرها ولايةُ “بَولْ”. فيمكن القول بأن الفضل في استقلال “كجور” يرجع بعضها إلى أهل “فوتَ طورُ” زد على ذلك فَالشيخ الذي ساعد الملكُ الشاب “همر انغونِ سوبيل فَال” (وقبل الأمير “ديشِ فو انجوغُ” فهل كانت هذه منطقة “كجور” ولوفيَّة كما يقول البعض؟ فأنا لا أدري لأن بصمات قَبيلة “سُوسِ” أو “الماندينغ” كأنها ظهرت في “كجور” قبل قيامِ هذه السلطنةِ) في تأمين حدود مُلكهِ، وأرض عاصمته الجديدة، كانَ مِن أصل فوتي وإن اختلفوا في اسمهِ… ومن المفارقاتِ أيضا أن أخ هذا الملك الجديد “مَديستِ” بعد أن جلسَ أخوه “همر انغونِ” على العَرش رغما عنهُ، هاجرَ إلى “فوتَ طور” وهناكَ بنى أُسرته حتى تمكنت الأسرة منَ الرجوع إلى أرض أجدادهم “كجور” بعدَ خمسينَ سنة من ذلكَ لإشعالِ النور في بلادِ “وُلوف” فَأَنشأوا مَدرسة “بير” الكبيرة التي خرجت فيها مئات مِن الزنوج وبالأخص سكان هذه المنطقةِ من الفلان والولف وغيرهما. وَيروي لنا التاريخ أن هؤلاء الرجال البواسل نشروا الإسلامَ في القرني الثامن عشر والتاسع عشرَ الميلاديينِ في المنطقةِ درسوا في “بِير” أو مَروا ببلادِ الولوف كما يقول البعض؛ فالشيخ سليمان بال رحمة الله عليه مفجر هذه الثورة الإسلامية هو خير مثال لذاك، وإن شئت أيضا فاذكر الشيخ عبدُل قادر كان، والشيخ سعيد JHG والد الشيخ الحاج عمر الفوتي، وكذلك الشيخ تفسير “مابه جخو با” مؤسس الدولة الإسلامية في “سالوم”.
3ـ العلاقة “كجُور” و”فوتَ طورُ” بعدَ قيام دولة الأئمةِ:
فالحياة بينَ المنطقتين كانت قائمة على أسس التعاونِ بين إخوة ربط بينهم الدم قبل الدين. كانوا في الجاهليَّة قبلَ ظهور الإسلام (وهذا لا يعني أن الأديان السماوية لم تصل إلى إفريقيا الغربية يومئذ) وَالحَرب أيضا سنة سنَّها الشعوب لأنفسهم؛ فقد كانت تحدث اشتباكات بينَ سكانِ “فوتَ” وأهلِ “كجور” فمثلا الشيخ عبد القادر كانْ، بعدَ أن أرسى دعائم دولة الأئمة بـ “فوتَ طورُ” قامَ بغزو “كجور” ولكنه لم ينجح في ذلكَ فأُسر ثم أطلقَ سراحه دميل “همر انغوني انديلَ كمبَ فال” كما أجزل له العطاء أثناء رجوعه إلى “فوت”، وكانَ ذلكَ في الفترة ما بين (1789م و1995م). وكانت أسباب هذه المعركةِ ـ أو جلها ـ سياسية بحت، وإن كانت الدولة في فوتَ إسلامية كما يقال. فقد كانَ لرجالهِ مشروع سياسي وإصلاحي يسهرون لتنفيذه. وبعدَ أن قتلَ الإمام عبد القادر كانْ عام (1806م أو 1807م) لم تكن لها أي أثر يذكر في المجالِ السياسيِّ، فقد كان لكل ولاية في “فوتَ طور” أَميرها، كما أن بعض العلماء في “فوتَ” كانوا يظنونَ بأن العَرش ملك لهم، يجلسونَ إليهِ متى شاءوا ويعيرونه للبعض حينا منَ الدهرِ. كما شهدَ التاريخ تحالفات بعض الأمراءِ فيها معَ المستعمر، وهذه حقائق تاريخية؛ ذكرتها لكي يعرف الناس بأن التحالف معَ المستعمر ـ في حالة الضعفِ ـ لم يكن خيانة للبلد وإنما هي استراتيجية، والظروف هي التي تحدد نوع النغمة التي تطرب بها القائد أو الأمير شعبهُ.
4ـ أثر قيامِ دولة الأئمة في “كجور”:
فلا يَظنَّ ظان بأن الإسلام لم يكن حاضرا في “كجور” قبلَ قيامِ دولةِ الأئمةِ؛ فقد شهد لنا التاريخ معركة “خِلْليرِ” التي درات بينَ جيش دميل “ديشي مَرمْ” وطلابِ القاضي “انجَايْ سال” الذي قتلَ المَلكَ السالف الذكر ثمَّ قام بِنصبَ “مَفالِ فال” على العرش ثمَّ قتلوهُ بعدَ ذلكَ. ومن يراجعَ أسبابَ هذه الوقائع يدرك بأنها سياسية لا دينيَّة. وقد قامَ بكسر هيمنةِ القاضي وأتباعهِ دميل “مَخُريجَ كمبَ جُوجُو”. وكانت هذه الأحداث في الفترة ما بينَ (1681م/و1684م) أي بعد أن قتلَ الشيخ نصر الدين بعشر سنوات تقريبا. فيقام الحركات الإصلاحية في المنطقة ليسَ بجديد، ولكنا أحيانا نريد استيراد كل شيء، ويذهب البعض إلى القول بأن المصلحينَ في المنطقة في القرن التاسع عشر مثل حركة الشيخ عثمان ديم فودِ والشيخ الحاج عمر وغيرهما تأثروا بالحركات الموجودة في الخارج، مثلَ الدعوة الوهابية التي كانت منتشرة في الحجاز أثناء قيامهم للحج إلى بيت الله الحرام في العقدِ الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وهذا لا يقوله إلا من يجهلُ تاريخَ الإسلامِ في منطقةِ السنغامبيَا والمراحل التي مر بها إلى يومنا هذا. (سامحوني على الإطالة، فقط أريد لفت انتباه القومِ).
رجوعا إلى غرضنا نقول إن مما أخذَ من القصاص والمؤرخينَ أن دميل “همر انغونِ انديلَ” ـ من أبرز ملوكِ كجور قاطبة ـ قامَ بقتلِ بعض العلماء في “كجور” ولم يروُوا لنا التاريخ القصة بكاملها، وبعبارة أخرى يمكن طرح هذا السؤال: “أين تكمن بداية القصة؟” فربما الشيوخ تأثروا بقيام دولة الإسلامية في “فوتَ طورُ” فاستيقظَ منهم روحَ الجهادِ، فحاولوا إنشاء نفس الدولة فِي “كجور” فسببت هذه الأمور قيامَ الواقعة؛ وَهذا لا يستعبد لِأن بعض قواد هذه الثورة في “كجور” بعد فشلِ مشروعهم هاجرَ إلى “اندَكارُ” فشهدت هذه المنطقة قيام الدولة الإسلامية (كما يسميه البعض) في دَكار حَوالي عام 1795م. فيمكن القول بأن الدولة الإسلامية في “فوتَ طورُ” أثرت كثيرا في حياة المسلمينَ، وبالأخص مسلمي “كجور”. والشيء الذي يجسد ذلكَ مجيء الإمام عبد القادر في “كجور” ومغادرة بعض إخوانهِ إلى أقصى غرب البلدِ بعدَ أن فشلَ مشروعهم. وبعدَ مرور 85 سنة من اللقاء الأول في ساحةِ الوغى بينَ “كجور” و”فوتَ طورُ” سجلت لنا صفحات تاريخ البلدِ لقاء آخرَ بينهما. واليومَ بِقيادة الملك الشاب “دميل لتجور” والزعيم الدَّيني الشيخ أحمد التجاني بن الشيخ “حمِ با” مهدي “فوتَ طورُ”. وقد تقاتلا بعدَ أن تحالفهما (تحالفا سياسيا) لغزو المستعمر الفرنسي، ولا يخفى أن هَذا الأخير كانَ يملكُ تلم العصا السحرية “فرق تسد” التي بها قامَ سَيطرةِ البلادِ؛ فساعد البعض على حساب الآخرينَ، وهم ـ المستعمر ـ في ذلكَ يقوم بتمثيلِ دورِ الأسد في قصة الثيرانِ الثلاثةِ المعروفةِ.
5ـ التاريخ السنغالي بينَ سرد الوقائع والأخذ بالدروس والعبر:
فعلى الشعب السنغالي الأخذ بالدروس والعبر من هذه القصص التاريخية التي كان فيها الأجداد ضحيَّة، سواء من حالفَ البيض أولا ثم غدر بهم البيض بعدما تمكنوا منهم في الأخير! فنقوم بدراسةِ الوسائل التي اتخذتها فرنسَا لاستعمار أو استحمار أجدادنا؛ ومن أهمها الشَّيطنة ولعب دور المصلح لكسبِ قلوبِ الطبقة الوسطى، وَترك أحبابهم من بني جِلدتنا يضطهدونَ الشعب المسكين، فما أخبار “سِيفْ دُو كَنكُونْ” عنا ببعيد. (روى لي ذاكَ الشيخ الجميل أنه كانَ في منطقة طوبَى تولْ رجل يدعى “كونكُ” فقد أذاق هذا المتغطرس لسكان هذه المنطقةِ ما لم يذقه آباءهم من قبل؛ لذا فعندما طافَ سنغور السنغال لكسب قلوب الشعب المسكين استعملَ هذا السلاحَ، فصوتوا لصالحه؛ بعدَ أن وعدهم بأنه سيخرجهم من ويلات هؤلاء المتكبرينَ). لأجل ذلكَ أرى بأنَّ الجلوس على مائدة الحوار، والعمل لمعانقة غرب السنغال شمالها، والجنوب شرقها، ثم يتبادلونَ قُبل التاريخ والثقافاتِ يجب أن يكون حرب كل مواطن سنغالي وبالأخص الباحثينَ والمثقفينَ، بدلا من التراشقِ بأحجار العار والخزي في المجموعاتِ والمنصاتِ الاجتماعية؛ لأن كل هؤلاء ـ سواء الوثنيينَ الذينَ عاشوا هنا قبلَ الإسلام، ومن عاشوا في ظلال الإسلام، وتحت سقف العلمانية اليوم ـ فكلهم أجداد لنا؛ فواجبنا نحوهم هو الاحترامُ وتقدير مجهوداتهم وإن وقعوا في الأخطاء مرات وكررات! فماذا تفعلونَ لو عاشَ من بينكم أحفاد المشركينَ من قريش؟! كونوا أيها السادة مثاليينَ، من يحارب وهو يرحم! ومن يسالمُ وهوَ يضحي بحياتهِ، وهذا هوَ عينُ الإيثار! فلنعرف بأن قوة أعداء الأجداد كانت أكبر وأعظم مما كانَ لديهم سواء في المجال العلمي والتقنياتِ ومعرفةِ التكتيكاتِ علاوة على ذلك تمثيل دور المنافق في قصَّة تدمير السلطاتِ والممالكِ. فالتجاني حاربَ المستعمر، وكانَ له همة عالية في ذلكَ، ويشهد ذلك محالفته مع لتجور في بدايةِ أمره، وكذلكَ قيام البيض بغزو أرضيهم في “فوتَ طورُ” مرارا على حضور ومسمع إخوانهم منَ المسلينَ؛ والسبب في ذلكَ أن أمراء “فوتَ طورُ” يومئذ (بعدَ وفاة الإمام عبد القادر كما أسلفنا) فقد كانوا يعملون للحفاظ على سلطناتهم. وأما “لتجور” فقد قائد جيش “كجور” قد حاربَ المستعمر قبلَ جلوسهِ على عرش “كجور” بعد عام (1869م) رغما عنهم؛ فاسأل عن “انغول انغول”، و”باتِ بجان” و”مخي” و”لوغا”! وَالبيض هم في التعامل مثلَ الإبل، يعاملونَ مع عدوهم، ويتحينون الفرص للسطو عليه.
6ـ فتنةُ “سَمْبَ سَاجُ”
نرجعَ إلى عام 1870م/1871م ونراجع معا الظروف المحلية، والأحداث الدولية في تلك الفترةِ؛ فقد عادَ “لتجور” إلى “كجور” ويريد استرجاعَ مُلكهِ، ثم صادفَ ذلكَ احتلالُ الشيخ أحمد التجاني لمملكةِ “جلوف” عام 1871م. ولم تجد فرنسا بدا إلا لقبول الواقع، والبحث عن التحالف أو التعايش السلمي؛ وذلكَ بعدَما ذاقت من ويلاتِ حربها ضد ألمانيا ما ذاقت. فشهدت هذه السنوات تحالف البيض معَ “لتجور” وبعد هذا التحالف تخالف الإخوانِ ثم اجتمعا في معارك عديدة، وكان الانتصار في كلها يكونُ حليف أهلِ “فوتَ”. ومن ثَمَّ مدَّ الأمير “لتجور” يَده إلى الإدارة الفرنسية في “اندر” فتمكن بذلكَ من رد هجوم “التجاني” وقتله وتوفي في تلك الفتنةِ جل رجالهِ، وكانَ ذلك عام 1875م. فكانت فتنة ـ كما يسميهِ الأستاذ أحمد مختار لوح ـ مثلَ الفِتنِ التي جرت بين المسلمينَ في جميع أنحاء العالم بداية من فتنةِ الجمل، مرورا بفتنة صفين، وفتنة الكربلاء، ثم واقعة “الزابِ” وقبلها واقعة الحرة وحصار مكة الذي قتل فيه عبد الله بن الزبير وكثير من رجالهِ. فهذه غيض من فيض لتلكَ المعارك (أو الفتن) التي دارت بين المسلمينَ في أرض الحجاز، وأما في إفريقيا و بالأخص إفريقيا الغربية فجلها كانت سياسية صبغت بصبغةِ الدينِ مثلَما كانَ يحدث بينَ المسيحيينَ واليهود فيما سلفَ من الزمانِ. ومن هذه الفتنِ التي وقعت في منطقتنا فتنةِ “حمد الله” التي دارت بينَ الحاج عمر الفوتي وأهل “ماسنا”. وزد عليها ما درات بينَ “لتجور” والتجاني” في “سمبَ ساجُ” السالف الذكر.
7ـ فرنسا الشيطانة:
فبواسطة هؤلاء الجنود المحليينَ، المشهورينَ بـِ “إسبِيِيس” (وجلهم من أكلَةِ الكُسْكُسِ) حاربَت فرنسا أجدادنا الأحرار. فبعدَ أن بعثَ البيض هذا الجيشِ إلَى “سالوم” عام 1865م لمواجهة عسكر المسلمينَ بزعامةِ تفسير “مابه جخو”. حاربوا بهِ لتجور في معارك كثيرة قبلَ التحالفِ. فساعدوهُ للأخذ بثأرهِ منَ التجاني الفوتي، فتمكن له ذلكَ. ثمّ قام بعد 7 سنوات من فتنةِ “سمبَ ساجُ” قاموا بإخراجِ “لتجور” من أرضهِ، والتفريق بينه وبين أصدقائهِ. ثمَّ أرسلوا جيوشهم المحليينَ “إسبِيِيس” إلى “لتجور” وبقية أهلهِ، فقتلوهُم عام 1886م في أرض “ديقلي”. فبدلا من أن نبكي على هذه اللعبة الخزرة التي لعبتها فرنسا لاستعمار أرضنَا، نسهر ونلومُ هؤلاء الأجداد الذينَ دلاهم البيض بغرور! فالتاريخ أيها الإخوة يساعدنا على فهم الواقع الذي نعيشه، وذلكَ إذا تحمسنا للرجوع إليهِ ونسهر لمعرفةِ الأسباب والنتائج منهُ. فالبيض قاموا بضربِ بعض أجدادنا على البعض الآخر. وجنودهم المحليينَ الذينَ حاربوا تفسير “مابه” في “سالوم”، ثم أرسلوهم إلى جل القرى الموجودة في المنطقة كانوا من بنِي جلدتنا. ولو كنتَ على علم بذلكَ لعرفتَ بأنَّ المتمسكينَ يومئذ بخيط النضال والمقاومة كانوا كمن قبض على الجمرةِ. لذلكَ أدعو جميع الباحثين إلى التكاتفِ والتعاضد، لمساعدة الشعب على الاستفادة من دروس التاريخ بدلا من سرد القصص المؤلمة ـ وإن كانَ التاريخ لا يرحم ـ ونبش الخلافات التي دارت بين الأجداد وبالأخص المسلمينَ منهم؛ لأن جل الذينَ قاوموا الاستعمار هم من المسلمينَ المخلصينَ لدينهم ولوطنهم وإن وقع بعضهم في الخطإ.
8ـ “لتجور” بطلٌ قوميٌّ للسنغال:
وكونُ “لتجور” بطلا قوميا للسنغال لا ينفي وُجود أبطال قوميين للسنغال؛ فالسنغال أكبر من لَتجور ومن غيرهِ؛ ولكن الحق أحق أن يقالُ إن كنا مؤمنينَ بالدين والوطن، فمجهودات هذا الأمير البطل والمجاهد “لتجور”، لسد هيمنةِ الاستعمار الفرنسي الغاشمِ في السنغال لجدير بالتَّقدير والتعزيز. وَلو فعلَ معاصروهُ نصفَ ما فعلَ فلا ترى اليومَ بلدا قيلَ بأنه استقل منذ أعوام، وَلم يزل يستظل تحتَ أشجار فرنسا في جميع المجلاتِ، تربويا واقتصاديا، وقانونيا وسياسيا. فهو بطل قومي بكل ما للكلمةِ من معان قبلَ أن يخلدهُ الرئيس الأول للسنغال لوبُولد سيدار سنغور ـ الذي نحكمه أحيانا بميزانِ الدينِ بيدَ أن أقوى معاونيهِ كانوا من العلماء الكبار في السنغال يومئذ ـ فمحاولة الربط بين هذا العمل الجليل الذي قام بهِ سنغور وبين أَسبابِ مَعركةِ “سمبَ ساجُ” نَوْع منَ ذر الرماد على العيونِ كما يقال! لأن بطولات “لتجور” تخاطب الباحث قبلَ كل شيء، ولو شهد له التاريخ مجهوداته في “سالوم” سيكفي له شرفا، إن كان الباحث يقدم الدين على الوطنِ؛ وإن كانَ العكس ـ يعني يقدم الوطن على الدين ـ فذَكره معركةِ “انغول انغول” و”ميخي” ثمَّ “ديقلي” الواقعة الأخيرة التي قرأ فيها البيض الصفحة الأخيرة للمقاوماتِ السنغالية ضدهم. ولم يكتفوا بذلك وإنما شهدوا عظمة هذا الأمير البطل الشاب “دميل لتجور”. وإن خرجنا لطلب معايير أخرى نتمسكُ بها في قياس درجات الأبطال في البلدِ غير بطولاتِ “لتجور” فَلا نجدُ معيار يستريح على أرجوحتهِ زعيم ديني أو سياسي إلا وقد وجدنا “لتجور” فوقها؛ فكانَ سياسيا ناضلَ لوطنهِ في زمن سجد للبيض جميع الامراء في المنطقةِ، وفي الدين جاهدَ مع تفسير مابه حتى استشهد هذا الأخير فرجعَ ـ هوَ ـ إلى أرض أجدادهِ “كجور”، يأمر بالمعروف عسكره وينهاهم عن المنكر، كما شهدَ ذلكَ القاضي مجختي كلَ (راجع الناسخ والمنسوخ قبلَ أن تفكر في هجاء القاضي للأمير البطل) فيمكن القول بأنه إن كانَ كل من حالفَ البيض في زمنهِ أو حاربَ ضد إخوانهِ فليس ببطل قومي فلنغلق صفحاتِ التاريخِ ونتركَ كل واحد منا يعظم مجهودات أجدادهِ وإن كانوا من جنود فرنسا المشهورينَ بـِ “إسْبيِيس”
9ـ التوصيات:
 إلى جميع الباحثين في التاريخ والحضارة: مضاعفة المجهوداتِ، لخدمة هذا الشعب الحار، والمتعطش لمعرفةِ تراث أسلافهم. كما أطلب منهم (فضلا وليس أمرا) ترك سفاسف الأمور التي منَ الواجب تسجيلهِ في هوامش التاريخ اليومَ؛ لأن جل هذه الأحداث التي يشهرونها أو ينشرونا تقتل عندَ العوام روح الاحترام والتقدير لمجهودات أسلافهم.
 إلى رؤساء البلدياتِ والمقاطعاتِ: تَسمية الأماكن العامة، والشوارع المشهورة، وكذلك المدارس الحكومية والمستشفيات وغيرها باسمِ الأجداد البواسل؛ فلكل منطقة في السنغال بطل أو أبطال رسموا مجهوداته في صفحات التاريخ.
 إلى وزارة التربية الوطنية: إدراج سيرةِ أجدادنا في جميعِ مراحل الدراسَةِ، بداية منَ التحضيري الأول إلى البكالوريا. وَتخصيص كل فترة دراسية لأحد الأبطال (كل حسب منطقته) ينظمونَ المحاضرات، ويشعونَ التلاميذ في البحث عن سيرتهِ، ثم يخصصون جائزة لأفضل عرض في الفترة. وَإن أمكن أن يكون اسمَ البطل اسمَ الجائزةِ، مثلا: (جائزةُ الأميرة اندتِ يلا)
 إلَى وزارة الدراسات العليا: إدراج تاريخ السنغال وحضارتهِ في المقررات الدراسية، بداية منَ السنة الأولى الجامعة إلى اللسانس. ثمَّ تنظيم رحلات اكتشافية إلى الأماكن التاريخية في السنغال، وذلك بالمساعدة مع وزارةِ الثقافة والسياحةِ.
 إلى وزارة الثقافة والسياحة: زيادة المجهودات في مجال الثقافة (والثقافة ليست رقصا وغناء فحسب كما يظن البهعض) لأن تقدم السياحة مرتكز في تطور الثقافة؛ مثل الاهتمام بالأماكن التاريخية التي تركَ فيها الابطال بصماتهم، وتنظيم رحلات اكتشافية إلى هذه الأماكن المقدسة. فمثلا لو قاموا بتنظيم أسبوع للبروفسور شيخ أنتَ جوب (وخصصوه للفصل الثالث الثانوي) ثم يشتغلون هذه الفرصة لزيارة روضته في “جِييْتُو” سيكون هذا الأمر سنة حسنة، وستلعب أيضا دورا رياديا في تقدم البلد في المجال التعليمي والسياحي والاقتصادي أيضا.
10ـ الختام:
وصل اللهم وسلم على من بعث رحمة للعالمينَ، من علم الإنسانية روح التضحية لأجل الناس، حتى يعرف أتباعه وأحبابه بأن الحياة عقيدة وجهاد… ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾. فهذه خربشات على صورة تاريخ السنغال، بلدُ “تيرانغَا” الذي نحبه، وسنموت ـ بإذن الله ـ مع هذا الحب العظيم المكنون في أعماق أعماق قلوبنا! فتلك عشرة كاملة أيها السادة، والكمال لله سبحانه وتعالى.

         الجلوفي

حفيد الأجداد/ باحث وكاتب
دكار: 7ـ نوفمبرـ 2025

Leave A Reply