تعليق حول كتاب ”سؤال الأخلاق من منظور الشيخ الخديم أحمد بمب لمؤلفه صالح سي.

0

كتبت / الدّكتورة بيّة سلطاني أستاذة التّعليم العالي، ومديرة الدّراسات بالمعهد العالي للحضارة الإسلاميّة، جامعة الزّيتونة، تونس.

تُعدّ هذه الدّراسة الّتي ألّفها الباحث الواعد صالح سي حفرا في الفكر الخديميّ، واحدة من أهمّ الدّراسات المعاصرة بحثا في “المسألة الأخلاقيّة”، أخطر المسائل إثارة للجدل عبر التّاريخ.

فالسّؤال الأخلاقيّ كان وما يزال واحدا من أكبر الأسئلة الّتي شغلت الفكر الإنسانيّ قديما وحديثا وراهنا. وقد تنوّعت الأطروحات الأخلاقيّة وفقا لتعدّد زوايا النّظر فلسفيّة وفكريّة، ودينيّة وبحسب السّياقات الحضاريّة، شرقيّة أو غربيّة. وكان أبرز تجليّات ذلك:

  • البحث في أهمّية الأخلاق، حيث عُدّ مقياس السّعادة، والحدّ الفاصل بين الخير والشّرّ كما عُدّ الضّابط للسّلوك الإنسانيّ وتوجيهه لفعل الحسن وردعه عن الفعل القبيح. وفضلا عن ذلك اعتبرت الأخلاق معيار بقاء الأمم كما عبّر عنه شعر شوقي:
     “إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت
    فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا “.
    -البحث في أصل الأخلاق، فنُسب إلى قيم المجتمع وقوانينه، بل قيل إلى الضّابط العقليّ، بل إلى الوازع الدّينيّ. ويبدو هذا الأخير أكثر المرتكزات شمولا وقدرة على احتواء القيم الأخلاقيّة وتوجيهها، وهو ما تجلّى في مختلف الأديان، اعتبارا لكون الدّين في أساسه حدودا وضوابط. ومثال ذلك أنّ النّصوص الشّرعيّة في الإسلام جاءت واضحة في إبراز أهميّة الأخلاق. فقد تشكّلت شخصيّة نبيّ الرّسالة، في المراد الإلهيّ وفق معيار الخلق العظيم. وشهد النّبيّ عن نفسه أنّه بعث ليتمّم مكارم الأخلاق.
     إنّ هذا الاهتمام المتنامي بالمسألة الأخلاقيّة ليبرهن على جوهريّة المسألة في الفكر الإنسانيّ عامّة وخارج دائرة الاحتواء، بأيّ وجه من الوجوه، ولذلك ظلّ التّأثّر متتابعا لاحقا عن سابق. فما من فيلسوف أو مفكّر بحث في الأخلاق، إلاّ وانعكست في رؤيته للمسألة أطروحات سابقة إنّ كثيرا أو قليلا، ذلك أنّ قضايا الفكر لا تتشكّل من فراغ، بل بما تثيره إحراجات معرفيّة أو منهجيّة لم تنل حظّها بالقدر الكافي في أطروحات سابقة.
    من هذا المنطلق استوعب الشّيخ الخديم كلّ التّراث الأخلاقيّ بمرجعيّاته المختلفة، فأمكنه استنباط مقاربة أخلاقيّة خاصّة به، اجتهد الباحث في تقصّي معالمها ضمن المدّونة الخديميّة الّتي تنوّعت نظما ونثرا، منطلقا منهجيّا من ثلاث فرضيات أساسيّة:
    -المقاربة الأخلاقيّة الخديميّة تتميّز بالفرادة، رغم استمدادها من مرتكزات نسقيّة سابقة، صوفيّة أو كلاميّة.
    -النّظريّة الأخلاقيّة الخديميّة تمتلك مقوّمات النّشر والتّعميم، لتكون مثالا يحتذى، ومقاربة إنسانيّة نموذجا.
  • مشروع الخدمة في فكر أحمد الخديم، إطار لتحقيق قيم التّضامن الاجتماعيّ، والتّعايش السّلميّ بصفتها أخلاق تطبيقيّة.

وقد جاءت فصول الدّراسة بمثابة اختبار إجرائيّ لهذه الفرضيات، هندسها الباحث وفق منهجيّة تدرّجت من العامّ إلى الخاصّ، وكشفت حرصه على جعل المتن متكاملا مضمونا، متوازنا حجما، حيث قارب في الفصل الأوّل المنظومات الأخلاقيّة في الفكر الفلسفيّ والكلاميّ، مستكشفا أثرها في البنية الفكريّة للمريديّة، واختبر ذلك الأثر مستجليا أوجه التّشابه والتّمايز بين تلك المرجعيّات وبين المقاربة الخديميّة الأخلاقيّة ليبرهن بأكثر من حجّة عن تميز هذه الأخيرة. ثمّ اختصّ الفصل الثّاني بإبراز وجوه الفرادة مستقرئا الواقع، وتحديدا مشروع الخدمة الّذي نظّر له مؤسس المريديّة مدارسة وحرص على إحلاله ممارسة بين المريدين، وتجلّى بالخصوص في قيم التّضامن الاجتماعيّ والتّعايش السّلمي وهي قيم حاجيّة، وذات بعد إنسانيّ تسوّغ اعتبار عالميّة مشروع الخدمة. فأبان الفصل الثّالث عن التّفكير الأخلاقيّ في الأيديولوجيّة الحداثيّة وكيف يمكن تجاوزها بالقيم الأخلاقيّة الّتي جاء بها الشّيخ الخديم.

وإذ أحبّر هذه التّوطئة المتواضعة للكتاب، فإنّي أشيد بالجهود العلميّة الكبيرة الّتي بذلها الباحث في جمع مادّة الدّراسة واستقراء مؤيّدات أطروحته، كما أثمّن في شخصه هذا الشّغف المعرفيّ والاهتمام المتميّز بقضايا إشكاليّة، فريدة من نوعها.
 
 

Leave A Reply