ليلى، سيدة بلجيكية من أصلٍ مغربي مقيمة في بروكسل، تكتشف شخصية الشيخ أحمد بن محمد بن حَبِيبَ الله الملقب بالشيخ أحمد بمبا – رضي الله عنه وأرضاه -، من خلال كتاب تحت عنوان “الصوفي الخالد” الذي ألّفه العلّامة اللاهوتي البروفيسور محمّد غالاي انجاي، المقيم في بروكسل.
إنَّ الكلمة الصادرة من قلبٍ مستنيرٍ بنور الله، على لسان عارفٍ بالله، تكون بلا شك كلمةً قادرةً على التغيير الجذري، بل على قلب الموازين رأسا على عقب. هذا وليعلم القارئ أنه إذا كانت لكلمة بمفردها كل هذا الأثر العجيب، فلا ريب أنّ كاتبها أو قائلها ليس إلا مُلهَماً من الله سبحانه وتعالى، وموفَّقاً بعنايته. إن قصيدة أو نثرا يفيض من قلبٍ يَتَلَقَّى الواردات والمدد الإلهية، لا بدّ أن يزلزل النفوس ويُحدث في الوجود رجّةً واضطرابًا.
وقد رأينا في سيرة الشيخ أحمد بمبا ــ قدّس الله سرّه، وتغمّده بواسع رحمته ــ ما أحدثته كلماته وأفعاله من آثارٍ اجتماعية وروحية جسيمة في محيطه. ولا غرو، فإن بروز إشعاعٍ قدسيٍّ في زمنٍ عاصفٍ كالذي عاشه الشيخ، لم يكن أبداً ليمرّ دون أن يُواجَه بالرفض والإنكار من قبل السلطات الاستعمارية. ومع ذلك، فقد وجدت كلماته المباركة طريقها إلى قلوب المستعدين لتلقّيها، فبدّلت أحوالهم وأحدثت فيهم انقلاباً باهراً.
إنّنا نتوغل في حضرة نفحةٍ ربّانية متى شرعنا في قراءة أقوال الشيخ أحمد بمبا. ومن هنا فإن شكري العميق وامتناني أولاً لله تعالى الذي وجّهني إلى هذا السفر النفيس “الصوفي الخالد”. ثم إن امتناني يتوجّه ثانيا إلى مؤلف هذا الكتاب المؤثر، أستاذنا الجليل محمد غالاي انجاي، الذي لا أشكّ أنّه قد حظي بالسند الرباني أولا والمدد الروحي ثانياً من هذا الولي المبارك، ولا شك أيضا من مخدوم هذا الأخير سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذا الذي يكون أحقّ من عالمٍ لاهوتي وفيلسوفٍ جليل، صاحب القلم المبارك والموفّق في أفكاره، أنْ يُعبّر في قليلٍ من الألفاظ عن كثيرٍ من الكنوز والدرر؟ لقد أتاح لنا، نحن البسطاء من عامة الناس، أن نلامس ونستمطر شيئاً يسيراً من أنوار السَّماء، وأن نتطلّع ـ ولو للحظة ـ إلى بريق نجومها المشرقة.
إنّ هذا الكتاب في حقيقته كأسٌ روحانيٌّ دُسِرَت فيه أسرار ومعانٍ سامقة. ومن يتصفحه بِتَأَنٍّ يجد أن الأستاذ الكاتب قد أبدع بالفعل وبمهارةٍ فائقة، لا في اقتطاف بعض الدرر والجواهر النفيسة من أشعار الشيخ بمبا وإشاراته ونثره وحسب، ولا في عَصْرِهَا حتى تفيض شراباً روحياً زكياً، بل في إثارة ظمأٍ في قلب القارئ يدفعه دفعاً إلى الرجوع إلى المنبع الأصيل ليروي منه غليله، ويغترف المزيد من فيضه.
وكما ذكرتُ آنفاً، فإن هذا الكتاب كأسٌ بديع، يذكّرنا بما قاله مولانا جلالُ الدِّين الرُّومِي: “كأسٌ قد يسكر المرءُ بمجرد النظر إليها”. أما أنا، فقد وجدتُ من خلال مطالعة هذا السفر رجلاً بسيطاً في مظهره الخارجي، شبيهاً بسائر الناس، غير أنّه أدرك حقيقةً جليلةً: أن الله سبحانه وتعالى لا يُخيّب أبدا من رجاه واعتقد فيه. فلما أيقن بهذه الحقيقة، انقاد قلبه خاضعاً، وأضحى بذلك صوفياً حقّاً.
فالصوفي الحقيقي هو العبد الخاضع لله جلّ وعلا، أي الذي أَسْلَمَ وكرّس وجوده كله لخالقه دون التفات قط لغيره. وبموجب هذا الانقياد التام والإذعان المطلق عقدَ الشيخ بمبا صفقةً روحيةً: متخلّيًا عن بعض المباحات الدنيوية الفانية، في مقابل التفرغ للعبودية الحقّة، وللخدمة، وهذه الكلمة الأخيرة تعتبر المفهوم العزيز الذي طالما حاول إبرازه أستاذُنا الكريم.
وممَّا يبعث على الدهشة والتأمل أنّ بعض اللمحات من سيرة الشيخ أحمد بمبا تكفي لأن تكشف عظمة المحن التي اجتازها وتجرع مرارتها، وتدلّ على صدق المسير الذي سلكه في طريق الله. ومن هذا المنطلق، يتجلّى لنا أنّ بلوغ النفس الإنسانية بعض الحقائق والمعاني الكبرى لا يتيسّر إلا بعبور جسور التضحية وخوض غمار الابتلاءات، بل وأحياناً ببذل الذات ذاتها. وهذا من أعمق الجوانب التي وُفِّق أستاذُنا الجليل في إبرازها وكشف اللثام عنها.
فأحمدُ الله عزّ وجلّ أولاً، ثم أشكر أستاذَنا الجليل على ما أنار لنا به شيئاً من ذواتنا ـ إذ لا بدّ للمرء أن يبدأ بتزكية نفسه ـ، وعلى الومضات التي لاحظتها عيوننا من شأن هذا الرجل العظيم، وما أبان لنا أيضا من أنّ هذا السبيل ليس حكرا لأحد، بل هو في متناول الجميع.
فإنّ الدرس الراقي الذي استفدناه من هذا الجهاد الروحي السلمي الذي خاض خضمه الشيخ بمبا هو أن التجربة الصوفية ليست وقفاً على نخبةٍ مخصوصة، بل أمرٌ ممكن وداخلٌ في حيّز القدرة الإنسانية، يقدر عليها كلُّ من عزم وصدق في المحاولة. ولأجل هذا، ولسواها من الفوائد العظيمة التي اكتشفناها من قراءة هذا الكتاب، سنظلّ ندين للشيخ أحمد بمبا بجميل الامتنان والعرفان.
وإنّ إخضاع النفس أو ترويضها (جهاد النفس) ليس بالأمر اليسير، إذ لا بدّ فيه من امتحانات وابتلاءات، ولكن إذا اقترن ذلك ببذلٍ صادقٍ للذات (don de soi) وتضحية، كان فيه رجاء الوصول وبلوغ المرام. وقد اختار مولانا الشيخ أحمد بمبا طريق الزهد في ترك بعض المباحات، وسلك مسلك الخدمة الصافية في إطار السِّلم واللاعنف.
وأمّا نحن، فالمطلوب منّا أن ننظر في أيّ صورةٍ من صور البذل والتضحية يمكننا ـ في حدود طاقتنا ـ أن نحققها، كي نسير على خطى هذا الوليّ العظيم، فننال برحمة الله سبحانه وتعالى رضوانه وفضله.
لقد رأينا من خلال سيرة الشيخ أحمد بمبا أنّه متى تحقّق بذل النفس على حقيقته، وُلد معه نوعٌ من الخضوع الباطني، بل ضربٌ من السجود القلبي العميق، إذ يحسّ المرء أنّ قلبه قد سجد سجدةً لا قيام بعدها.
فأجدد شكري مرّة أخرى لأستاذنا الجليل الفاضل، الذي أذاقنا طرفاً من عظمة تلك السجدة الباطنية وما تحملها من أنوارٍ وأسرار.
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنّا كلَّ خير.
(ليلى، بلجيكية من أصلٍ مغربي مقيمةٌ ببروكسل، تكتشف سَرينْ طوبى الشيخ أحمد بمبا رضي الله عنه ونفعنا ببركاته، وذلك من خلال كتاب “الصوفي الخالد”، تأليف العلّامة البروكسلي محمد غالاي انجاي، مدير معهد المحراب ببروكسل. يوم الأحد17 أغسطس 2025م.)
ترجمة: معهد المحراب الإسلامي بروكسل
Sign in
Sign in
Recover your password.
A password will be e-mailed to you.