كلُّ حركاته وسكناته، وأوقاته بوجه عام، كانت مخصَّصة لله وحده، بل إن حياته كانت تجسيدًا عمليّا لمعنى قوله تعالى:”قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”،فكأنما نزلت الآية تصف حاله.
وكفى بذلك دليلاً أن يشهد شاهد من النصارى حين حاول أن يصف حال الشيخ، ويبرز كيف كان محافظًا على أوقاته، منظمًا لأعماله، دقيقًا في تقسيم يومه.
فقد أشار إلى أن الشيخ كان يواظب على تلاوة القرآن بعد صلاة الفجر إلى وقت الظهر؛ تارة يقرؤه من المصحف، وتارة أخرى يستظهره عن ظهر قلب، حتى إن صوته في الترتيل كان يُسمع من خارج البيت، يرنّ في مختلف أرجاء بيته، الذي كان هو نفسه يسمّيه “البقعة المباركة.”
وقد ذكر أنه كان يلتزم بأداء صلاة الضحى كل صباح، قبل أن يستأنف تلاوة الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأشار كذلك إلى أن الشيخ كان يخصّص ما بين الظهر والعصر لنظم أبيات شعرية، عُرفت لاحقًا باسم “القصائد” لدى المريدين، لما حوت من حكم ومعانٍ سامية.
وكان يختلي بنفسه ما بين العصر والمغرب، يغوص في أعماق التفكر، وكأن آية:“ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك! ” تتجسّد فيه حيّة.
وبعد صلاتي المغرب والعشاء، كان يقيم النوافل بإخلاص وخشوع، يطيل السجود ويحيي الليالي بطول التهجد والتسبيح، امتثالا لقوله تعالى:
“ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا”
فنال بها ما شاء الله له من خيرات، ومواهب ربانية، ومقامات رفيعة، جزاء من قال فيه ربه:
“إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياءكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون.”
وختم الراوي كلامه بقوله:
“إن تلك البيوت المتناثرة التي أثارت شكوك بعض الوشاة، لم تكن تحوي سوى كُتب.”
ولم يكن غرضه من تعدد المساكن الترف أو الجاه، بل كان يقصد العزلة، والابتعاد عن ضوضاء الناس، كي لا يُعطَّل عن لوازم العبودية، ونفع الخلق بكرةً وعشيًا.
“وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، هو خيرًا وأعظم أجرًا”
فيا لها من حياةٍ زاخرةٍ بالأنوار، وسيرةٍ طيّبةٍ مُعطّرة بالذكر والطاعة، خُتمت برضا الرحمن، وذاقت فيها النفس حلاوة القرب، حتى بدا وكأن نداء السماء يُهمس لها عند ختام المسير:
“يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”
مصطفى امباكي بنت ✍️