بقلم: محمد جانج – طالب بجامعة شيخ أنت جوب بدكار، تخصص الحضارة
من الحكمة أن نستضيء بما تركه لنا السلف الصالح من التراث العريق، وأن نجعل منه نبراسًا لمسالكنا ورايةً لقضيتنا، ترفرف في عنان السماء، وتهدي كل من يشاركنا الطريق ويقتسم معنا لقمة الخبز. فالتمسك بالتراث الحضاري الأصيل هو أنجع وسيلة لتحقيق الأهداف المرجوة. غير أن الوصول إلى هذا التراث قد يتعذر أحيانًا ما لم نقم بتوثيق معالمه وتنقيح نصوصه الموثوقة؛ لمعرفة الصحيح من الزائف. ويسهُل هذا الأمر متى ما التزم الباحث الحياد، وابتعد عن الانتماءات الضيقة والمواقف المسبقة، متجنبًا الوقوع في الخطأ الشائع المتمثل في الحكم على الأصول بناءً على الفروع.
انطلاقًا من هذا المبدأ، جاءت رغبتي في تسجيل هذه الملاحظات التي تعكس مشاهداتي خلال زيارتي الأولى إلى مدينة طوبى المحروسة، بمناسبة يوم ماغل طوبى في الثالث عشر من أغسطس 2025، سعيًا إلى رصد ما رأيته من معالمها الحضارية والتراثية.
رحلة إلى قلب الحدث
سنوات طويلة وأنا أسمع عن ماغل طوبى وما يحمله من معانٍ روحية وقيم سامية، وعن مكانته المستمدة من سيرة مؤسسه الشيخ أحمد بامب، حتى غدا موسمًا عالميًّا يفد إليه الزوار من كل صوب. وأصدق شاهد على ذلك مشهد الجموع المتدفقة نحو المدينة، امتثالًا لوصية الشيخ، وابتغاءً للبركة بذكر الله ورسوله ﷺ، وتكريمًا لكل ضيف.
قررت هذه المرة أن أكون شاهدًا مباشرًا، إيمانًا مني بأن المشاهدة أوثق من الرواية، وأن الحضور الميداني أصدق من أي وصف منقول. ورغم صعوبة الطريق ومشقة السفر – كما في الأثر: “السفر قطعة من العذاب” – عزمت على خوض التجربة.
حيرة الضيافة ودفء اللقاء
ما إن وصلت إلى طوبى حتى وجدت نفسي أمام معضلة لم أتوقعها: إلى أي بيت أتوجه أولًا؟ فالأصدقاء والأقارب كُثر، خاصة من جهة والدتي، وأردت إرضاء الجميع. خطر ببالي قول الجاحظ: “الأخذ من كل علم بطرف”، فابتسمت. وعندما سألني أحد رفاق السفر عن سر ابتسامتي، أجبته: “وجدت الحل، سأقسم وقتي بين الجميع”.
وكان من أكثر من ترك في نفسي أثرًا طيبًا الأخ باي مصطفى جوب، الذي جمع بين كرم الضيافة وحسن الترتيب، ووفّر لي ما أحتاجه لتحقيق أهداف الرحلة الروحية والعلمية.
بين المعالم والكنوز العلمية
• مسجد طوبى الكبير

بدأنا جولتنا فجراً بالصلاة والدعاء في أروقته، في لحظة روحانية عميقة، حيث يلتقي السكون بخشوع القلوب، وتغمر المصلين هيبة المكان وقدسيته.
• “داري كامل”
مركز علمي وثقافي يضم مخطوطات نادرة، بعضها مصاحف مكتوبة بخط اليد تُعد تحفًا فنية وعلمية في آن. هناك أيضًا مكتبة متخصصة في دراسة المخطوطات وتصحيحها، وأخرى تضم كتبًا وقصائد للشيخ أحمد بامب، فضلًا عن أضرحة بعض أعلام الطريقة المريدية.
• مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين
تحفة معمارية تجمع بين الجمال الهندسي والمحتوى العلمي. من أبرز ما فيه المخطوطات الأصلية بخط الشيخ الخديم، وأعمال كبار علماء المريدية مثل الشيخ محمد الأمين جوب الدغني، والشيخ محمد مصمب امباكي، والشيخ موسى غي، والشيخ سرج امباكي بوصو، وغيرهم من العلماء الذين حفظوا التراث للأجيال القادمة.
تأملات في التجربة
أدركت أن طوبى ليست فقط مقصدًا روحيًّا، بل هي أيضًا كنز معرفي مفتوح لكل باحث جاد. ومع ذلك، لاحظت أن كثيرًا من الزوار ينشغلون بالمظاهر المعيشية من أكل وشرب وراحة، ويتغافلون عن الكنوز العلمية والفكرية التي يمكن أن تُسهم في بناء جيل واعٍ قادر على مواجهة تحديات العصر.
خاتمة ودعوة للإنصاف
أنصح كل باحث حريص على التطوير المجتمعي أن يبتعد عن إطلاق الأحكام المسبقة على ماغل طوبى بالتحريم أو التبديع استنادًا إلى ممارسات فردية أو مظاهر جانبية، وأن يعود إلى أصول المناسبة ومرجعيتها الصحيحة. فجوهرها خالٍ من الشبهات، ويمكن قياسها على مناسبات إسلامية كبرى أخرى، مثل المولد النبوي في توَاوون وكولخ. إن الحكم على الأصل من خلال الفروع مجافٍ للإنصاف.