فقهُ الأولويات في قضايا الأمة عند الشيخ أحمد بامبا.

0

كتبه: شعيب بن حامد لوح.

السياق: في خِضم الجدل المتجدد بين أدعياء السلفية والمنتمين إلى الصوفية، والذي يؤججها زخم وسائل التواصل الاجتماعي وضجيجها، يحسن بنا استحضار المواقف التي من شأنها تهدئة الوضع وإعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية.
ومن أجَل التنظيرات الجديرة بالطرح والترويج في سوق الخصومات والنزاعات مواقف الشيخ أحمد بامبا رضي الله عنه ورؤيته وفقهه العميق في قضايا الأمة وفي العلاقات بين الناس على اختلافها وتنوعها.
عاش مولانا في ظرفي زمني ومكاني سيطرت عليهما القوى الأجنبية (الاستعمار الفرنسي)، الذي حاول إسكات كل صوت يسبح خارج سِربهم، ويخشى كل تجمع ويحسبه صيحة عليه، وكان المسلمون في حاجة إلى من يلمُّ شتاتَ ما تفرق بتذكيرهم رابطة الإيمان التي من اعتنقها عُصم دمه وماله، هذا من جانب.
ومن جانب آخر توزع مسلمو هذا البلد في طرق صوفية مختلفة أبرزها الطريقة القادرية أقدم وصولا إلى السنغال، والطريقة التجانية…، ولانتشار داء التعصب الطرقي في سريان بعض المنتسبين إلى هذه الطرق حاولوا استغلالها لأغراضٍ بعيدة عن مسارها وغاياتها، مما لا يخفى على دارس ماضي هذا البلد.
وفي هذه البيئة المضطربة ظهر شيخنا مجددا ومركزا كل جهوده على ضرورة جعل الأولويات في لمِّ شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم أولا؛ ولذلك أعلن رضي الله عنه باتخاذ كل مسلم ومسلمة إخوانا له بغض النظر عن اللون واللغة والمذهب والطريقة…
ونبه إلى أن شرط حب المسلم منوط على مجرد إيمانه دون النظر إلى غير ذلك مما يعرض للإنسان، فقال:
وأحببِ المؤمنَ للإيمان = ولتُبغض الكافر للكفران
كما صرح في الملأ أن الإنسان إذا ثبت إيمانه انتفى العداء، بقوله:
فلا تُعادوا من رأيتم فاهُ = يُخرج لا إله إلا الله
وتطبيقُ هذا البيت وحده كافٍ لإنهاء كل العداوات والخصومات الدائرة بين طوائف المسلمين، والتي قد تصل إلى التبديع والتفسيق والتكفير في بعض الأحيان.
كما أن استنباطاته وفهمه العميق للنصوص القرآنية أدته إلى توظيفها فيما يوحد صف المسلمين، فقد قال: “مَن اتَّخذ “إنَّ” و: “إنَّما” فلا يُعادي مسلما: {إن الشَّيطانَ لكم عدوٌّ}، و: {إنَّما المُؤمنون إخوةٌ}”، وهما آيتان في تحديد مَن هو العدوُّ ومن هو الأخ، فمن وقف على حقيقتهما فلا يُعادي إنسانا ينطقُ: [لا إله إلا الله].
وإذا أضفتَ إلى هذه النصوص أدعيته المتكررة لجميع المسلمين في مختلف قصائده، وحبه لهم ورأفته بهم، وصفاء قلبه من كل ضغينة وحقد تجاههم اكتملت الصورة التي تُريك أي مستوى كان عليه شيخنا رضوان الله عليه.
وقل نفس الشيء في رؤيته للطرق الصوفية، ومعالجته لما قد يسبب التعصب الطرقي، وذلك من استخدامه هو لأوراد مشائخ هذ الطرق المختلفة في السنغال، ثم إقراره في وقت مبكر أن كل هذه الأوراد موصلة لمستخدميها إلى حضرة رب العالمين، وقال في مسالك الجنان:
فكلُّ وِردٍ يُورد المريدا = لحضرةِ الله ولن يَحيدا
سواءٌ انتمى إلى الجِيلاني = أو انتمى لأحمدَ التيجاني
أو لسواهما من الأقطابِ = إذ كلهم قطعا على الصواب
فكلهمْ يدعو المريدين إلى = طاعةِ رب العرش حيثما جلا
بالاستقامةِ، فلا تسخرْ أحدْ = منهم ولا تُنكِرْ عليهم أبد
وفي مسألة الجدل الذي يمكن نعته بالعقيم في هذا العصر، فقد أوصدَ شيخنا كل الأبواب والأسباب الموجبة لذلك، إدراكا منه بأن ذلك لا يُجنى منه ثمرٌ، بالإضافة إلى كونه هدرا للوقت والجهد فيما لا يعود بفائدة دنيوية ناهيك عن أخروية، وقال في بيت يوضح فيه أن خدمته لوسيلته صلى الله عليه وسلم في مجال تثقيف الناس بالعلم النافع، وتصحيح عقائدهم بالتوحيد، وإصلاح أعمالهم بالفقه، وتصفية بواطنهم من الرذائل والأمراض الباطنية بالتصوف هي الأولوية بالنسبة له، وقال:
أبشِّرُ خيرَ الخلق بالخطِّ خدمةً = بعقدٍ وفقهٍ بالتصوف لا جدلْ
كما بيَّن أن وقوفَ الإنسان على حقيقة أن واجباته أكثر من أوقاته، يغنيه عن إنفاق وقته النفيس في جدال لا يخرج منه بنتيجة ملموسة، وقال في إشارة إلى أن قضاءه وقته في تلاوة القرآن والمواظبة على أوراده اليومية هي التي تمنع عن الجدال وتراشق التهم:
تُرْسِي عن الجدالِ والإنكارِ = تلازُمي الكتابَ ذا أذكارِ
وغير ذلك من أبيات وإشارات نجدها حافلة في كتاباته، قصد بها مولانا تذكير الناس بمبدأ: التعاونُ في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه، وتقديم الأخوة الإيمانية على كل الانتماءات الأخرى بما فيها الطريقة أو المذهب بلهَ غيرهما.
وإذا تبين هذا الموقف أمكن القول إن الجدل العقيم المتكرر بين المسلمين هو بمثابة تضييع للجهد ومخالف لمبدأ الأولويات، وذلك في وقتٍ أهملوا القضايا الكبرى التي يؤتى بها الإسلام، وفي مقدمتها قضية إخواننا في فلسـ@طيـــن المحتلة، حيث تواطأت كل القوى العالمية على حربها وإبادتها بالقصف والتجويع في مَرأى ومسمع العالَم.

ربيع الأول 1447 هجرية.
سبتمبر 2025 ميلادية.

Leave A Reply