مقال : كيف يتصالح العدل والاستقرار في السنغال؟

0

تطرح اللحظة السياسية الراهنة في السنغال جدلية شبيهة بما عرفه التاريخ الإسلامي بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان رضي الله عنه سنة 35هـ، حين واجهت الأمة أول أزمة سياسية كبرى بين مطلب تحقيق العدالة ومطلب الحفاظ على وحدة الدولة.
هذه الأزمة التاريخية، وإن اختلفت من حيث الزمان والسياق، تُستدعى اليوم رمزيًا في الخطاب السياسي السنغالي، لتأطير التباين في المقاربات بين خطاب الرئيس بشير جوماي أمس، وخطاب وزيره الأول ورئيس الحزب الحاكم عثمان سونكو.

فعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد تولّى الخلافة في ظرف دموي معقَّد، رأى أن الأولوية تكمن في تهدئة الوضع الداخلي وإعادة تماسك الدولة قبل الاقتصاص من قتلة عثمان، لأن القصاص دون ترتيب سياسي قد يهدد الكيان الهش للدولة الإسلامية الناشئة.
أما معاوية بن أبي سفيان، والي الشام، وأقوى رجال المرحلة من حيث الشرعية السياسية والقاعدة الجماهيرية، وقريب الخليفة المقتول، فقد طالب بالقصاص الفوري، واعتبر أن العدالة شرط سابق لأي وحدة سياسية.

هذا الخلاف تطوّر إلى مواجهة مسلحة في “صفّين” سنة 37هـ، وما تبعها من انشقاقات (الخوارج (معركة النهروان) ثم لاحقًا الشيعة)؛ وقد مثّلت لحظة مفصلية في تفكك التماسك السياسي للدولة.

في الحالة السنغالية، لا مجال طبعا لمقارنة الأحداث من حيث الجوهر، لكن المقارنة الرمزية تُضيء طبيعة التعارض بين رؤيتين في قمة السلطة مع اتحادهما في الهدف وهو تحقّق المشروع الإصلاحي، الرئيس جوماي يقدّم خطاب الاستقرار وإعادة ترتيب المؤسسات، متكئًا على شرعية انتخابية حديثة وسعي إلى تطبيع سياسي واجتماعي داخلي، لترسيخ دعائم الوحدة الوطنية وتحقيق الحرية التامة للسلطة القضائية دون أيّ ضغط من السلطة التنفيذية.
في المقابل، يحمل سونكو مطلب العدالة الانتقالية، ويرى أن التصالح دون محاسبة فعلية لرموز النظام السابق هو تبييضٌ للظلم وتهديد لجوهر المشروع الإصلاحي.
مشكلتنا أننا لا نتقن ثقافة الخلاف، فالخلاف في الرؤى والاتحاد في الهدف رحمة، فهما لا يتنازعان بل اختلافا فقط، وهذا أمر طبيعي جدا.
فأين تلتقي هذه الرؤيتان؟ وهل يمكن أن يصطفّ “عليّ” و”معاوية” السنغال على طاولة سياسية لا تعيد إنتاج مأساة الماضي؟

التاريخ الإسلامي لا يقدّم نموذجًا ناجزًا، لكنه يُبرز أن تغييب أحد المطلبين (العدل أو الاستقرار) يؤدي دائمًا إلى حالة نزاع طويل الأمد.
فالدول التي اكتفت بإنتاج “مصالحات سياسية” شكلية انفجرت لاحقًا، فالسودان مثلا (بعد 1989 وحتى ما بعد الثورة 2019)، فبعد سقوط نظام البشير، تم تشكيل حكومات انتقالية وُصفت بالتوافقية، لكنها افتقرت إلى عدالة حقيقية تجاه الجرائم السابقة، وحدثت مساومات مع رموز النظام السابق.
فكانت النتيجة: انقلاب عسكري جديد في 2021، وعودة للعنف والفوضى والانقسام العسكري (الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع).

بينما تلك التي سلكت العدالة العقابية الصرفة دون مشروع وطني جامع غرقت في دورة انتقامية، ففي ليبيا من (2011–2023):
بعد إسقاط القذافي، سادت دعوات للعدالة عبر المحاكمات، لكنها كانت انتقائية وغير شفافة، في ظل غياب مشروع وطني للمصالحة الشاملة. فتفككت الدولة، وتعددت الحكومات والميليشيات، وما تزال البلاد في دوامة فوضى.

الدرس إذًا:
لا استقرار دون عدالة، ولا عدالة دون دولة. والطريق الثالث الممكن هو العدالة التوافقية (justice transitionnelle négociée)،
وهي مقاربة معروفة في العلوم السياسية بعد النزاعات، وقد أثبتت دول إفريقية مفعولها الإيجابي مثل: جنوب إفريقيا ورواندا وتونس، فهي تقوم على كشف الحقيقة، والمحاسبة الجزئية، والعفو المشروط، والتعويض، والإصلاح المؤسساتي.

هل يملك سونكو وجوماي معًا هذا القدر من الشجاعة السياسية لابتكار هذا المسار؟ هذا هو التحدي الحقيقي لقيادة سنغال ما بعد الثورة.

بقلم/ عبد الأحد الكجوري
باحث متخصص في التاريخ والحضارة
رئيس اللجنة العلمية بحركة (موداب)

Leave A Reply