بقلم الكاتب/ عثمان سك سفير الأزهر
لم تكن قضية المستعربين في السنغال مجرّد نقاش تربوي عابر، بل تحوّلت إلى سؤال عميق يمسّ العدالة التعليمية ومكانة العربية في بنية الدولة الحديثة. وتظهر هذه الإشكالية بوضوح في أزمة عدم الاعتراف بالشهادات العربية التي تصدرها الجامعات والكليات المستعربة داخل البلاد، أو تريث في طريق معاملتها وفي مقدمتها جامعة شيخ أحمد بمبا، كما تعاني من عدم اعتراف الشهادات كل من:مجمع الشيخ الخديم وكلية الدعوة الإسلامية فرع السنغال، وكلية الإفريقية، وكلية الاعمار وغيرها من المؤسسات التي رسّخت حضورها بخبرة طويلة وكفاءة مشهودة. ورغم أن هذه الجامعات تُخرِّج سنويًا عشرات الطلبة الذين تثبت نتائجهم ومهاراتهم جديّة بنيتها الأكاديمية، فإن الدولة ما تزال تتلكأ في الاعتراف بشهاداتهم، في الوقت الذي توجه فيه الطلبة إليها رسميًا. وهنا يكشف المشهد عن تناقض صارخ لا يمكن لعاقل قبوله: كيف تُرسل الحكومة أبناء المستعربين إلى مؤسسات أكاديمية، ثم تتنصل من الاعتراف بشهاداتها عند لحظة المشاركة في المسابقات الوطنية؟
لقد أضحى من غير المقبول أن يتخرج الطالب من مؤسسة تشرف عليها الدولة أو توجه إليها الطلبة، ثم يجد نفسه محرومًا من حقه الطبيعي في المنافسة على الوظائف العمومية. فغياب الاعتراف بالشهادات أو معادلتها يعني ببساطة إغلاق أبواب المستقبل في وجه هؤلاء الخريجين، وتحويل سنوات دراستهم إلى جهدٍ لا يجد طريقه إلى سوق العمل، وهذا ليس مجرد خطأ إداري، بل صورة واضحة من صور التهميش المقصود الذي يعانيه المستعربون في السنغال.
وإنّ الحكومة، حين تعلن تعيين حملة الشهادات العربية في كلية إفريقيا وجامعة شيخ أحمد بمبا ومجمع الشيخ الخديم وغيرها من المؤسسات، تفترض ضمنيًا أنّ هذه المؤسسات مؤهلة أكاديميًا لاستقبالهم، وإلا لما أحالت الطلبة إليها. غير أنّ هذا الإحالة لا تُترجَم إلى اعتراف حقيقي بالشهادات التي تُمنح لهم بعد التخرج. وإن لم تُرفق خطوة الإحالة بخطوة الاعتراف ومعادلة الشهادات في أقرب وقت، فإن الأمر لا يعدو أن يكون تلاعبًا بمستقبل جيل كامل من الخريجين الذين يحق لهم، مثل غيرهم، المنافسة في مسابقة دخول كلية العلوم وتقنيات التربية والتعليم(فاستيف) بجامعة شيخ أنت جوب(UCAD) وسائر المسابقات الوطنية.
ويزداد هذا المشهد غرابة حين نرى أن السنغال لا تعترف ببعض الشهادات التي تُمنح داخل أراضيها، بينما تعترف بالشهادات نفسها إذا صدرت من فرع المؤسسة خارج البلاد. وكلية الدعوة الإسلامية مثال صارخ على هذا التناقض المؤلم. فالشهادة التي تصدرها فرع الكلية في السنغال لا تحظى باعتراف الدولة، بينما الشهادة ذاتها إذا مُنحت في ليبيا —من فرع نفس الكلية وبنفس البرنامج وبنفس المناهج— تصبح معترفًا بها وتتيح لحاملها فرص التوظيف والمشاركة في المسابقات من بينها مسابقة “فاستيف” المذكورة أعلاه، وليس لهذا المشهد تفسير منطقي سوى الشعور بالدونية تجاه الإنتاج الأكاديمي المحلي، وتقليل شأن المؤسسات الوطنية التي تمثل في النهاية ثمرة جهد أبناء هذا الوطن، وكذلك تقليل الطابع المستعربي السنغالي.
إنّ الاعتراف السريع والعادل بالشهادات التي تمنحها الجامعات العربية السنغالية الخاصة ليس مجرد مطلب أكاديمي، بل هو دفاع عن كرامة الطالب السنغالي وعن حقه في العدالة التعليمية. إذ لا يمكن قبول أن تُفضَّل شهادات المؤسسات الدولية أو الإفريقية على شهادات الجامعات الوطنية التي أثبتت عبر السنوات جودة تكوينها وعمق برامجها، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأنه نوع من التحيز غير المبرر ضد التعليم العربي المحلي.
أنا كمستعرب في هذا البلد، لا أملك إلا إدانة هذه الممارسات التي تُضعف شأن العربية وأبنائها، وتكرس شعورًا بالهامشية الثقافية داخل وطنٍ يُفترض أن يعامل أبناءه على قدم المساواة. إنّ الوطن الذي لا يثق في مؤسساته التعليمية الوطنية، ولا يعترف بجهد علمائه، إنما يزرع في أبنائه بذور الشك في قدراتهم، ويعمق الفجوة بين ما يمكن أن نكونه وما نسمح لأنفسنا أن نكونه.
لقد آن الوقت ليواجه صناع القرار الحقيقة: إما الاعتراف الرسمي بالشهادات العربية المحلية، أو التوقف فورًا عن توجيه الطلبة إليها. أما الإبقاء على هذا الوضع الملتبس، فهو ظلم لا يمكن تبريره، ومساس بمستقبل حملة الشهادات العربية (المستعربين)، وإضعاف لقيمة التعليم الوطني، وإشارة مؤلمة إلى أن ما ننتجه بأيدينا لا يحظى بالثقة التي تُمنح بسهولة لما يأتي من الخارج.
وما دام هذا الوضع قائمًا، فإن المستعربين سيظلون يرفعون صوتهم دفاعًا عن حقهم في الاعتراف والعدالة، لأن كرامة المعرفة لا تقبل الانتقاص، ولأن الوطن الذي نحبّه يستحق أن يمنح أبناءه جميعًا الفرص نفسها دون تمييز أو تفضيل.