قراءة في رواية ((صفر الخروج نعمة في طيّ نقمة)) للأستاذ سرين امباكي محمد لوح

0

رواية أدبية متفرّدة تميّزت بجزالة اللغة وعمق الفكر ووضوح المعنى تَضُمُّ بين دفّتَيْها حكاياتٍ حقيقِيَّةِ الواقع عاطفِيَّةِ الإبداع خيالِيَّةِ المُتْعَة والطَّرافَة. المعطيات الثقافية والمعلومات التّاريخية المؤصّلة والتي استمدّها الكاتبُ من مصادر موثوقة في تاريخ أفريقيا وحضارتها وما متَّ بصلة إلى الطّريقة المريديّة أو مؤسّسها منذ النّشأة ولحدّ الآن.
يعجبني جدّا تمكّن هذا الرّوائي من إجادة الوصف مع رشاقة مُعْجَمِهِ اللغوي ودقّتِهِ في انتقاء الألفاظ إلى جانب ما اكتسب من قراءة واسعة وَوَاعية لحياة شيخنا أحمد الخديم.


لقد غامر بِنَا الكاتبُ وَشَقَّ عُبابَ البحث وأَطْلَعَنَا على مرحلة مهمّة حافلة بجواهر التّربية ودُرَرِ التّعليم في حياة رجل عظيم متعدّد الأبعاد عاش بتوفيق ربّه في عائلة علميّة شريفة وَطِيدَةِ التَّدَيُّنِ تنحدرُ جذورُها من فُوتَا العريقة مَحْتِدِ جُلِّ أَساطين بلدنا٬ وإثرَ ما تعلّم وتفقّهَ وتثقّف وتصدّر٬ تبنّى منهجيَّةً دعويّةً كلّفَتْه الكثيرَ من المعاناة والاضطهاد وحملَتْهُ على تأسيس مدن متعدّدة نائية المسلك اقتطعها بنفسه وقطنَها مع تلامذته لتسيير فِكره الصّوفيّ بعد أن أعلن عن دعوته الإصلاحية الجديدة في امباكِي كَجُورْ مرورًا بِمْبَاكِي بَوَلَ في ظرف زمنيٍّ كان اللهوُ واللعب فيه يستعبدان النَّاسَ ويسوقانِهِمْ إلى أغوار الشّقاء والهلاك.
ظلّ الشيخُ أحمد بمبا يمضى هادفا قَصْدَه محفوفا برجال صدُقَتْ إرادتُهم وعَلَتْ همّتُهم وتفانَتْ محبّتُهم وانسلَخَتْ رغبتُهم عن غير ربّهم ممّا ساعده على نجاح باهر في تشكيل قاعدة صوفية قويَّة الدّعائم متامسكة الأطراف في ظروف عويصة كالليل الحالكِ البَهيمِ وضغوطات شعبية وسلطوية لم يكن التّاريخُ يصدّق أن الإنسان الأسود في غرب أفريقيا يتجرّأ على طرح مشروع دينيّ إصلاحي نهضوي واعٍ أو رَسْمِ منهج تربويٍّ إسلاميٍّ أصيلٍ يسعى إلى طمس التيّار الفكري الاستعماري ونفض غباره عن منطقة بولْ وكجورْ وانجامبورْ وما تَاخَمَهَا بل في السّنغال برُمّتها بأسلوب علميّ تدريجيّ عميق مع تطهير النّفوس من شوائب العادات والتّقاليد٬ وترسيخ الهوية الإسلامية والوطنية فيها بلا حمل سيف ولا إشهار سلاح.
لا جرَمَ أن السَّبيل كان وَعِرًا جدًّا مكتظّا بمخاطر رهيبة ومخاوف جمّة لكنّها أوهنُ من بيت العنكبوت أمام قلبٍ ينبضُ بالإيمان.

لقد قرأتُ هذه الرواية بعناية فائقة وأجَدنُِي غائرَ الشُّعور والوجدان كانت دموعي تنسكب وتفيض عندما وصلتُ إلى مرحلة امباكي بَاري حيث خَلَقَ المستعمرُ مضايقات على شخصية الشيخ وَجَدَّ جِدُّهُ على تدميرِ واجْتِثَاثِ قلعته التّعليمية وتشتيت قاعدته الجماهيرية وطمسها من الوجود
وهنا بدا الشيخُ في هذا الوضع المتوتّر رابطَ الجأش قويَّ العزيمة والشّكيمة صادقا مطمئنّا مستسلما لقضاء ربّه ومفوّضا أمرَه إليه ، وصبيحةَ عزمَ (لَكَلِيرْكَ) Leclerc حاكم لُوغَا على اعتقاله بجيش عَرَمْرَمٍ وقف الشّيخُ أمام جمهوره وأتباعه وكلُّهُ فناءٌ في حبّ الله وانقيادٌ إليه فاستدعى ولديْه الصّغيرين جدا ((المصطفى والفاضل))وعمَّهما ثم أخذ ينصح العمَّ (إبراهيم فاطِ) بالقيادة الرّشيدة للنّشئِ والصّبر والدّوام على العبادة والخدمة واضعا يديه على رأسيْ ولديْه.
وبعدُ : استحضرَ ((عونَ الله)) مُهْرَهُ الْأَبْيَضَ وركب على صَهْوَتِه المنحُوتة متوجّها إلى انْدَرْ لتلبية دعوة الحاكم العامّ ومقابلته في جلسة سيصدر إثرَها قرارٌ نهائيٌّ يخصّ شأنَه وقد مرّ بِجِيوَلْ وكوكي ولُوغَا قبل وصوله إلى اندَرْ وثَمَّةَ سعى كبارُ وجهاء المدينة لخلق مفاضات وإيجاد صُلْحٍ بينه وبين قادة الإدراة الفرنسية فاعتذر الشيخ وقال:(( خلّوا بيني وبين ربّي فهو أَرْأَفُ النّاس بِي وأعلم منكم بما هو الأصلح لي))
الله الله يا لَصِدْقَ التّوكّل على الله الوكيل!!!!
ثمّ غادر الشيخ هذا المكان إلى دَكَارْ العاصمة وَصَلَهَا مساءَ الخميس صائما، وبات فيها قائما وثَمَّةَ رُحِّلُ نحوَ غَابِونْ Gabon وَغُيِّبَ عن وطنه وأهله في حدود ثماني حِجَجٍ إلّا قليلا بلا أيّ مبرّر
اِسْتَمِعْ إليه وهو يقول:

ظَلَمْتُمُ الْعَبْدَ الَّذِي لَا يَنْتَقِمْ
لِنَفْسِهِ مُجَاهِدًا لِلْمُنْتَقِمْ
أَخْرَجْتُمُوهُ مِنْ بِلَادِهِ بِلَا
حَقٍّ وَجَاهَدَ وَقَاسَاهُ الْبَلَا
لِوَجْهِ مَنْ عَنْهُ عَفَا عَنْكُمْ عَفَا
بَعْدَ جِهَادٍ وَبَلَاءٍ ضُعِّفَا

إنّ هذه الرّواية تحفة أدبية شامخة المستوى ووقفة تاريخية وثقافية ممتازة تكشف عن بداية الرّؤية الحضارية الدينية والرّسالة العلمية والحملة التَّنويريَّة الّتي أطلقها الشَّيْخُ أحمد بمبا في أقطاره جُلُفْ وَمُتَاخَمَاتِهَا في وقتٍ قَوِيَتْ فيه شوكَةُ الاستعمار على مواجهة الملوك الاستقراطيين والشيوخ الدينيّين من لَدُنْ تِشُرْنُ سليمان بَالْ ومُعاوِنه الإمام عبد القادر كَنْ مرورًا بالحاجّ عمر الفوتي وأحمد شيْخُو ومَبَهْ وسَيِرْ مَتِ ولَاتْ جُورْ.

شكرا للأديب البارع واللغويّ المتضلّع سرين امباكي محمد لُوحْ الّذي أَمْتَعَنَا بهذا الجمال الأدبيّ والفنّيّ ممّا يدعو الشّباب الباحثين ودارسي اللغة العربية إلى مذاكرة تراثنا التّاريخيّ الثريّ والحفاظ عليه والحرص على تضمينه في الرسائل والورقات العلمية والبحوث الأكاديمة الجامعية

تالا كاسي غلام الخديم

Leave A Reply