بقلم / الشيخ شعيب كبه ابن أخت المرحوم الشيخ مصطفى صالح امباكي .
يعد الشيخ مصطفى صالح مباكي من الشخصيات البارزة في الطريقة المريدية، فقد كان مثالا للمريد الصادق المتفاني في خدمة دينه ووطنه وطريقته، حيث جسّد مبادئ الصدق، والنزاهة، والزهد، والعرفان سواء في حياته اليومية او في علاقاته مع الناس. عُرف الشيخ بحكمته ونظرته الثاقبة للأمور، مما جعله محط احترام واسع داخل المريدية وخارجها. فلم يكن مجرد عالم ديني، بل كان مفكرًا عميق الرؤية، يتميز بإخلاصه المطلق ووفائه التام لتعاليم الشيخ أحمد الخديم، كما أنه كان صاحب شخصية قوية تجمع بين الحزم والتواضع، وهي سمات قلما تجتمع في شخص واحد.
أصوله ونسبه
وُلد الشيخ مصطفى صالح مباكي في بيئة دينية عريقة، تنحدر جذوره من شجرةٍ روحيةٍ عتيقة ومباركة، فهو سليل الخليفة العام الخامس للمريدية، الشيخ صالح مباكي، وحفيد مؤسس الطريقة المريدية الشيخ أحمدو بمبا. وأما والدته فهي السيدة سخنة ماتي جاخاتي بنت عبد الرحمن ، وقد نشأ في كنف عائلة متجذرة في التصوف الإسلامي، حيث غُرست فيه القيم الروحية والمبادئ الأخلاقية منذ نعومة أظفاره.
مولده وتربيته:
وُلد الشيخ في قرية غوت في منطقة جوباس القريبة من مدينة تياس بالسنغال، ونشأ في جو ديني ملتزم، حيث كان للبيئة التي أحاطت به أثر كبير في تشكيل شخصيته الفريدة. فقد كانت تربيته قائمة على مبادئ الزهد، والتقوى، والاعتماد على النفس، وهو ما انعكس في مسيرته الحياتية.
دراسته القرآنية والفقهية:
حفظ القرآن الكريم في سن مبكر من حياته على يد العلامة المقري شيخ مور مباي سيسي صاحب المدرسة القرآنية المباركة الشهيرة في مدينة جربل، وكان الشيخ مور مباي سيسي يحبه حبا جما، وكان يتفاءل له كثيرا، ويبشره بمستقبل باهر له في العلم والمعرفة والولاية والخدمة، لما كان فيه من أمارات الذكاء الخارق والنبوغ الباهر.
وقد استطاع في وقت وجيز جدا من حفظ كتاب الله وإتقانه حفظا وتلاوة وتجويدا ورسما، ثم واصل دراسته الشرعية على يد العالم العلامة المفسر الكبير الشيخ محمد دم، حيث تعمق في علوم الآلة والغاية من لغة وفقه، وتفسير، وبلاغة وآداب، والتصوف الإسلامي حتى بلغ فيها الغايات الاقصى. لم يكن الشيخ مصطفى مجرد حافظ للقرآن، بل كان متدبّرًا لمعانيه، متبحرًا في علومه المختلفة، يستشهد به في جميع مجالات حياته العلمية والعملية. وكان ذا مقدرة فريدة على تفسير النصوص الدينية بعمق وروحانية، مما جعله من أعمدة المريدية في نشر تعاليم الشيخ أحمدو بمبا المستمدة من القرآن الكريم. كما كان يُعرف بحفظه القوي للمتون الشرعية المختلفة وشروحاتها، مما جعله مرجعًا في المجال الديني.
نبوغه المبكر وتميزه الفائق:

لم يكن مجرد طالب علم، بل أظهر منذ صغره نبوغًا استثنائيًا وتميزًا فكريًا نادرًا. تميز بذكائه الحاد، وسرعة بديهته، وقوة استدلاله، مما جعل كلمته مسموعة في الأوساط الدينية والعلمية. فقد كان يحلل الأحداث بعقل ثاقب، مستندًا إلى مبادئ الشريعة ومتطلبات الواقع، وهو ما جعله مرجعًا دينيًا ومفكرًا مصلحًا في آن واحد. وكان منفتحا على معارف عصره، وكان له شبكة علاقات وصداقات واسعة مع الجالية اللبنانية المحتكرة للتجارة في العواصم والمدن الكبرى في السنغال، فكان يأخذ منهم الصحف الصادرة في الشمال للاطلاع على المستجدات في العالم العربي والإسلامي، وقد مكنه ذلك من توسيع أفقه المعرفية بشكل واسع في ذلك الوقت، مما اكسبه محبة واحترام الجميع. وكان جدته الشيخ فاطمة جاخاتي تحبه حما جما لما كان يرى من خصال حميدة.
اهتمامه بالتراث الخديمي:
كان حياته في جربل في ذلك الوقت فرصة نادرة مكنته من الاطلاع الواسع على تراث الشيخ الخديم الروحي والعرفاني والأدبي، حيث أبدى الشيخ مصطفى اهتماما مبكرا بتراث الشيخ ، فكان في وقت مبكر من حياته يجمع الروايات والمأثورات عن الشيخ الخديم من كل من كان يعرف عنه الاتصال المباشر بالشيخ الخديم رضي الله عنه، وكان له أوفر حظ وأكبر نصيب من الروايات العالية الأسانيد التي جمعها ممن صحبوا الشيخ الخديم ولازموه في جربل، وكان يجمع في بيته كبار المريدين ويسألهم عن سيره الشيخ وقصص حياته، وكان يسجل ذلك في أشرطته؛ خاصة الأناشيد الدينية التي كان تنشد في الحلقات اثناء المواليد والمواسم بشكل خاص.
وهكذا تمكن الشيخ مصطفى من حفظ وصيانة مجموعة كبيرة من تراث الشيخ النثري والشعري إلى جانب الكرامات والخوارق والروايات الشفوية الخ. وكان محبوبا جدا لدى أعمامه من أبناء الشيخ الخديم ومن كبار المشايخ المريدين، وكان يقربونه إلى أنفسهم ويدعونه إلى مجالسهم الخاصة، فكان مقربا جدا من عمه الشيخ محمد البشير وكان يلازمه في معظم الأوقات، وكان يرافقه ويحمل له دواوين القصائد الخديمية التي تتلى في مجالس الذكر والانشاد في رمضان كما أخبرني بذلك. وكان معروفا لدى الجميع بكثرة حفظه للقصائد الخديمية وتلاوتها بشكل مدهش. وكان له اهتمام خاص بطريقة انشادها والقائها في المحافل والمواسم الدينية بطريقة مؤثرة تخترق القلوب.
شعره ومؤلفاته
كان محبًا للأدب والشعر، وتميز بموهبة فريدة في نظم القصائد لمدح وتمجيد الشيخ أحمدو بمبا والتعبير عن مبادئ المريدية بشكل عميق ومؤثر. وقد عُرف أيضًا بملكته الأدبية الرفيعة، وتميز شعره بالعمق والرمزية والروحانية العالية، مما جعله شاعرًا روحانيًا بارعًا في الوسط المريدي، حيث نظم العديد من القصائد في مدح الشيخ الخديم وبيان تعاليم المريدية.
ومن أهم مؤلفاته النثرية : -»الآيات تتنزل، والتاريخ يشهد” (1999)، وهو كتاب تناول قضايا واشكاليات معاصرة بأسلوب تحليلي عميق، وتمت ترجمته إلى الفرنسية والإنجليزية، مما يعكس تأثيره الفكري العابر للحدود.
خطيب مفوه وكاتب بارع:
كان من أبرز الخطباء في السنغال، حيث تميز بقدرته الفريدة على الإقناع والتأثير في مستمعيه. لم يكن خطيبًا تقليديًا، بل كان مفكرًا يستخدم المنطق والحجج الدامغة في خطبه، مما جعله يحظى بمتابعة كبيرة في المريدية وخارجها.
كراماته العديدة وخوارقه الروحية
عُرف عنه العديد من الكرامات التي تناقلها المقربون منه وزائروه، فكان يتمتع بفراسة المؤمن، حيث لم تكن تخطأ فراسته أبدا، وكان يتميز بقدرة فائقة على إجابة الخواطر والإخبار بالمغيبات، وهي من الخوارق التي تدل على روحانيته العالية واتصاله العميق بالله. كما نُسبت إليه كرامات في مواقف مختلفة أكدت مكانته الروحية الرفيعة، حيث كان يجيب عن تساؤلات مريديه قبل أن يبوحوا بها، ويقدم الحلول قبل أن يُطلب منه ذلك، مما زاد من تعلق الناس به وإيمانهم ببركته.
محاضراته القيمة

لم يكن يُلقي الدروس لمجرد التعليم، بل كانت محاضراته مليئة بالحكمة والتحليل العميق لقضايا المجتمع والدين. ركز على شرح وايصال تعاليم القرآن واشاراته وارشاداته الروحية والاخلاقية والعرفانية، فكانت محاضراته في معظمها تدور حول فلسفة الإرادة الصادقة والهمة العالية والآداب المرضية في التصوف الاسلامي وفي طريقة الشيخالخديم رضي الله عنه ، كما كان يسعى دائما إلى نشر القيم الإسلامية الصحيحة بعيدًا عن المغالاة أو التفريط. وكان يؤمن بأن التصوف الصحيح يجب أن يكون متجذرًا في العلم، وليس فقط في الممارسة الشكلية.
جهوده في خدمة المريدية
كان له دور محوري في تطوير المؤسسات المريدية، حيث عمل إلى جانب الخليفتين الشيخ عبد الأحد مباكي والشيخ صالح مباكي في إدارة شئون الخلافة المريدية وفي إنشاء البنى التحتية والمرافق العامة في مدينة طوبى وفي تطوير مشاريع الطريقة بشكل عام. كما كان له دور لافت في تنظيم مغال طوبى وإدارة شؤون الطريقة بحكمة واقتدار. فكان يدعم المشاريع التنموية التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للمريدية في خلكوم، مما يعكس فكره الاستراتيجي وتخطيطه بعيد المدى.
وكان عمه الشيخ عبد الاحد مباكي يحبه جدا ويقربه الى نفسه لكي يساعده في تسيير أمور الخلافة، وكان يكلفه بمهام عديدة داخل الطريقة وخارجه، وقد أوفدها لتمثيله في العراق في ضيافة الرئيس الراحل صدام حسين، كما شارك في مؤتمر المصالحة والوساطة في الحرب بين العراق وايران، وقد القى هناك محاضرات قيمة للغاية عن الدعوة المريدية وتعاليم مؤسسها الشيخ أحمد بامبا. وقد مثل عمه ايضا في الاسبوع الثقافي الذي نظمه اليونيسكو في باريس حول الشيخ الخديم والدعوة المريدية ، وهناك قدم الشيخ مصطفى مباكي محاضرة قيمة للتعريف بالمريدية ودوره البارز في نهضة البلاد من الناحية الروحية والثقافية والاقتصادية.
وفي ظل خلافة والده الشيخ صالح كان الراحل شجاعا بكل ما للكلمة من معنى، لا يعرف الملل ولا الكلل، لا يذوق للنوم طعما ولا للراحة مذاقا، فكان لا ينفك يبذل النفس والنفيس في خدمة الشيخ صالح، وكان نعم عضده الايمن ومستشاره وخادمه ومعينه في جميع الأمور، وكان يساعده في أمور الزراعة كإدارة مشروع خلكوم وغير ذلك من المهام، وكان يلقي بعض الخطب والكلمات نيابة عنه في بعض المناسبات.
الالتزام بالدعوة والزهد
كان همه كله منحصرا في أحياء التراث المريدي الذي ورثه عن جده وابيه، فلم يكن طموح الا في الحفاظ على المدارس القرآنية والمشاريع الزراعية التي ورثها عنهم رضي الله عنهم اجمعين ، لم يكن يسعَى وراء المناصب أو الثروات، بل عاش زاهدًا، مكرسًا نفسه لنشر تراث جده وخدمة المريدين. كان يرى أن العزوف عن الدنيا هو السبيل الحقيقي للتقرب إلى الله، وهو ما انعكس في حياته البسيطة والمليئة بالعبادة والخدمة. فكان نموذجا للشفافية والنزاهة في كل جزئية من جزئيات حياته المباركة.
صفاته وأخلاقه
عرف الشيخ مصطفى صالح بمحبة الشيخ الخديم والفناء فيه ، كما شهد له بذلك الشيخ منتقى مباكي في كلمات عالية مشحونة بالدلالات ومشحونة بالمعاني، فلم يكن له حديث ولا حوار خارج الكلام عن الله والقرآن والشيخ الخديم وقصائده، وما عدا ذلك فلغو وكلام فارغ يسبب له الانفعال ، ومن دلائل محبته للشيخ الخديم انه كان دايما يروي قصصه وسيرته وحكاياته في مجالسه وكان بدقائق المعاني وجلائل العبارات في كلامه عن الله والقران والشيخ الخديم وقصائده.
وكان سخيا للغاية لا يدخر يده شيئا وكان ينفق في سبيل الله ويعطي الهدايا الطائلة إلى الخلفاء ومشايخ المريدية وكل من له صلة بالشيخ الخديم.
وكان معروفا لدى الجميع بالصدق، والنزاهة، والشفافية، والتواضع، والكرم وعلو الهمة ومعالى الامور. كان رجلاً زاهدًا في الدنيا، لا تغريه المناصب أو الأموال، كما كان جريئًا في قول الحق، لا يخشى في الله لومة لائم. كان معروفًا بعدم تسامحه مع الفساد والتلاعب، وكان يواجه كل أشكال الظلم بوضوح وصراحة. فكان رجل الاستقامة والمواقف الجريئة سواء في علاقاته مع السلطة أو في إدارته لموارد المريدية، ظل رجلًا مبدئيًا، يرفض التلاعب أو استغلال النفوذ. لم يتردد في توجيه رسائل قوية حتى لكبار المسؤولين.
إرثه ووفاته
بعد حياة حافلة بالعلم، والعطاء، والتضحية من أجل الطريقة المريدية، عاد الشيخ مصطفى صالح مباكي الى ربه راضيا مرضيا بعد ظهر الأحد،17 شعبان، عن عمر ناهز ٨٥ ، فوري الثرى جنب والده الشيخ صالح مباكي، أمام المسجد الجامع بطوبى.
لقد كان رحيله خسارة كبرى للسنغال وللإسلام وللمريدية، لكن إرثه الفكري والأخلاقي سيظل خالدًا في قلوب المريدين، حيث يُعد نموذجًا نادرًا للصدق، الزهد، والاستقامة.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا