كتب عبد الأحد الكجوري
متخصص في التاريخ والحضارة
رئيس اللجنة العلمية في حركة (موداب).
منذ فجر الحضارة، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، كان من السنن الراسخة أن تنقسم المجتمعات إلى حاكم ومحكوم، بصور وأشكال مختلفة. لكن ما يضرب بجذوره في أعماق النفس البشرية هو الاعتقاد، بغض النظر عن مدى صحته، وبات من الضروري وجود قائد يُعنى بالشؤون العامة، وشيخ يرعى القضايا الروحية. وأحيانًا، تمتزج المهمتان في شخص واحد، مما يؤكد متانة العلاقة بينهما، حيث يشكل الشعب الرابط الأساسي بين هذين.
العلاقة بين الشعب والسلطة: مكاسب وتحديات:
إن طبيعة هذه العلاقة هي مفتاح الإجابة عن سؤال محوري: ما الذي يجنيه الشعب من هذه الصلة؟ هذا السؤال ظل يتردد عبر العصور، وكانت إجاباته تتفاوت بتفاوت العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الروحية.
في السنغال، وقبل نيل الاستقلال، تجلت هذه العلاقة بوضوح في قادة الثورة ضد الاستعمار. وهنا يبرز التساؤل: هل كان هؤلاء القادة من المثقفين باللغات اللاتينية أم من رجال الدين؟ لقد أثبت التاريخ أن الشيوخ الذين تبحروا في علوم الدين الإسلامي، من خلال لغة القرآن الكريم، كانوا الركيزة الأساسية في مقاومة المستعمر. خذ على سبيل المثال: الشيخ عمر الفوتي، والقائد مابا جاخو باه، والشيخ أحمد بامبا. هؤلاء القادة، بحبهم الصادق للدين والوطن، أشعلوا في قلوب أبناء وطنهم شعلة الوعي والثورة والإباء، وتركوا إرثًا خالدًا استحقوا بفضله مكانة سامية في الذاكرة الوطنية.
لكن بعد هذه التضحيات الجسام، ورغم خروج السنغال من قبضة الاستعمار بفضل جهود هؤلاء القادة، لم يستسلم المستعمر بسهولة. فعندما أدرك عجزه عن مواصلة السيطرة بالقوة، لجأ إلى استراتيجية الغزو الفكري، مستهدفًا هوية الشعب السنغالي، فعمد إلى نشر الثقافة الفرنسية من خلال التعليم، وسعى لطمس الهوية الحضارية من خلال تنشئة السنغاليين وفق الطريقة الفرنسية. وفي هذا السياق، عانى المثقف باللغة العربية من تهميش ممنهج، حيث قُيّدت مواهبه وأحلامه تحت ذريعة اللغة، بينما فُضّل من تشرب ثقافة فرنسا عن طريقة لغة “موليير”.
استمر هذا النهج لعقود بعد الاستقلال، خاصة في عهد الرئيسين سينغور وجوف، حيث اقتصر دور رجال الدين فيه على استغلالهم لتحقيق مكاسب سياسية، بينما حُصر المثقف بالعربية في أدوار دينية بحتة، مهما بلغت قدراته.
تحولات سياسية ومكانة المثقف بالعربية:
مع وصول الرئيس عبد الله واد إلى الحكم، بدأت صفحة جديدة، إذ مدّ جسور التعاون مع أهل طوبى، الذين ظلوا متمسكين بهويتهم الحضارية ووطنهم. وقد أثمرت هذه العلاقة تعيين وزير للشؤون الدينية من المثقفين بالعربية، وهو المرحوم بامبا انجاي. ورغم أن تعيينه جاء لأسباب سياسية أكثر منها إصلاحية، إلا أنه شكّل بداية لكسر الحواجز الوهمية التي فرضتها سياسة فصل الدين عن الدولة، وأعاد الأمل في إعادة الاعتبار للمثقفين بالعربية.
فتح هذا التغيير الباب أمام جيل جديد من المثقفين باللغة العربية، الذين سعوا إلى مواكبة العصر، مكتسبين مهارات تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ورغم التحديات، وأبرزها وجود من استغلوا اسم اللغة العربية لأغراض شخصية، إلا أن هذا الجيل استطاع تجاوز العقبات، ليقدم نموذجًا للمثقف الوطني الواعي، الذي ينخرط في المشهد السياسي بإيجابية.
دور “موداب” في دعم المشروع الإصلاحي

من بين هذه الكوكبة، برزت حركة “دومو دار الوطنيين” (موداب)، التي تأسست لدعم الزعيم عثمان سونكو، الذي رأوا فيه القائد المناسب لتصحيح الظلم التاريخي الذي عانوه. وقد أظهر سونكو تقديرًا بالغًا لهذه الحركة، مُعبّرًا عن إعجابه بقدرات أبناء الدارات القرآنية والمثقفين بالعربية. ففي خطاب تاريخي ألقاه يوم تأسيس الحركة، أشاد بانسجام مكوناتها المتنوعة، وأعرب عن انبهاره بذكاء أعضائها وطاقاتهم، مؤكدًا أنهم يمثلون إضافة حقيقية للمشروع الإصلاحي في السنغال.
ومن هنا، فُتحت أبواب التعاون على مصراعيها، وأبدى الزعيم سونكو رغبة أكيدة في الاستعانة بهذه النخبة المثقفة. فبدأت أعمال حركة موداب بالدفاع القوي عن حزب باستيف في وجه حملات التشويه والشيطنة التي شنتها جهات مغرضة ضد المشروع الإصلاحي، مستخدمة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقد كان لهذه الجهود نتائج ملموسة، إذ تم تعيين:
• الإمام طاهر فال ( رئيس حركة “موداب”) مستشارًا خاصًا لرئيس الجمهورية.
• شيخ عمر بامبا جوب (المنسق العام لحركة “موداب”) نائبًا في المجلس النيابي بعد فوزه ضمن قائمة حزب باستيف.
• محمد منصور انجاي (الأمين العام لحركة “موداب” نائبًا ثانيًا للمفوضية الوطنية للحج في الأماكن الإسلامية المقدسة.
تحديات المستقبل وملاحظات مشروعة
لكن، لا بد من التوقف عند بعض الملاحظات…
هذه التعيينات ليست إلا بداية لما هو قادم. وعندما صدر المرسوم الرئاسي بتعيين المدير العام للمديرية العامة للشؤون الدينية وإدماج حاملي الشهادات العربية، فوجئ الكثيرون بتجاوز الحركة المسؤولة عن الشؤون الدينية داخل الحزب، بحجة تعيين شخصية محايدة من المثقفين بالعربية. فوقع الاختيار على الدكتور جيم درامي -حفظه الله- الذي لا أحد ينكر قدراته العلمية وسعة ثقافته، ونكنّ له كل الاحترام. ولكن من منطلق النقد البنّاء، نطرح التساؤلات الآتية:
• هل يدرك تمامًا ما هي المهمة الأساسية لهذه المديرية؟
• هل عمله تابع لخطة مرسومة تخدم الهدف الأساس من إنشاء هذه المديرية؟
• لماذا لم يتواصل مع من رسموا نواة هذه المديرية واقترحوها على قادة الحزب؟
• لماذا يتم التعامل بازدواجية مع المثقفين بالعربية؟ حيث يرسل نائبًا عنه إلى محافل المثقفين بالعربية الموالين للنظام السابق، لكنه لا يلقي بالًا لمن تفانوا في إنجاح المشروع الإصلاحي؟
• لماذا لا نرى أي سعي لهذه المديرية لتحقيق الشق الثاني من اسمها: إدماج حاملي الشهادات العربية؟
نرجو من سيادتكم الاطلاع على هذه الملاحظات ، لنكون على بيّنة من أمر هذه الجهة المختصة بأبناء الدارات ومصالحهم المشتركة.
علما بأنّ هناك برنامجا مقترحا مفصلا في إدماج الحاصلين على الشهادات العلمية باللغة العربية -عند الحاجة إليه-.
خاتمة
إن المثقف بالعربية في السنغال لم يعد ذلك الشخص الذي يقتصر دوره على الوعظ والإرشاد، بل أصبح فاعلًا سياسيًا واجتماعيًا، أثبت قدرته على التأثير والمساهمة في بناء الدولة. ومن هذا المنطلق، فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق أصحاب القرار، الذين ينبغي أن يدركوا أن تصحيح المسار ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية.
ختامًا، نأمل أن تتضافر الجهود لإنصاف هذه الفئة التي قدمت للوطن الكثير، وما زال لديها المزيد لتقدمه، في ظل قيادة تؤمن بالعدل وتكافؤ الفرص، بعيدًا عن الحسابات الضيقة التي أرهقت المشهد السياسي لعقود. والأمل معقود على أن يكون المستقبل أكثر إنصافًا، وأكثر احتواءً لكل مكونات المجتمع، دون إقصاء أو تهميش.